الاحكام - ابن حزم - ج ٣ - الصفحة ٣٧٦
وقال تعالى * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) * فلا شئ بعد النص المذكور آنفا أعم ولا أكثر معاني من هذا النص الثاني. فلو لم يرد غيرهما لحرم النكاح جملة، والوطئ بالبتة، ولكان النساء كلهن مستثنيات مما أبيح النص الأكثر المذكور آنفا، فلو لم يرد غير هذين النصين لحرم النساء جملة.
وقال تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * فكان هذا مبيحا لما حظر النص المذكور الذي فيه حفظ الفروج، لو لم يرد غير هذه النصوص لوجب الاخذ بالتحريم، لان الآية التي فيها إباحة النكاح موافقة للنص الأكثر الذي فيه إباحة كل ما في العالم، وإنما هي تأكيد وتكرار كسائر ما في القرآن من التكرار والتأكيد الذي أورده الله تعالى كما شاء، * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * كما كرر تعالى أخبار الأنبياء عليهم السلام: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * و * (أطيعوا الرسول) * فكرر إباحة نكاح النساء كما شاء.
ولسنا نقول: إن شيئا من هذه النصوص قبل كل شئ، ولا أن شيئا منها بعد شئ، وسواء نزل بعضها قبل بعض، أو نزلت معا، لا فرق عندنا بين شئ من ذلك، وليس شئ مما نزل بعد رافعا لشئ نزل قبل إلا بنص جلي في أنه رافع له، أو بإجماع على ذلك، وإلا فهو مضاف إليه ومعمول به معه ضرورة لا بد من ذلك، فلما صح ما قلنا من استثناء تحريم النكاح جملة مما أباح تعالى لنا، ووجدناه تعالى قد استثنى إباحة النكاح من حفظ الفروج استثناء تاما بقوله تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون ئ إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ئ فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) * فصح يقينا أن الزواج وملك اليمين مستثنى مما حرم من إهمال الفروج.
ثم وجدها هذا الاستثناء يحتمل أن يؤخذ به على عمومه، فيخص به من آية التحريم أشياء كثيرة: منها الأختان بملك اليمين، والام والابنة بملك اليمين، والكتابية بملك اليمين، والحائض والمحرمة والصائمة فرضا، والحريمة بصهر أو رضاع، ويحتمل ألا يخرج من النص الذي فيه تحريم إهمال الفروج جملة إلا ما خص نص جلي أو إجماع متيقن على إخراجه منه، فلو أخرجنا من النص الذي فيه تحريم إهمال الفروج كل ما يحتمل إخراجه، لكنا قد أسقطنا ما تيقنا
(٣٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 371 372 373 374 375 376 377 378 379 380 381 ... » »»
الفهرست