مسكن الفؤاد - الشهيد الثاني - الصفحة ٦٦
وجلست عند قبره آنسا به أقرأ القرآن إلى أن مضى من الليل ساعة (1)، فغفوت غفوة فرأيت صاحبي في أحسن صورة وأجمل زي، في روضة خضراء عليه ثياب خضر قائما يتلو القرآن، فقلت له: ألست بصاحبي؟ قال: بلى، قلت: فما الذي صيرك إلى ما أرى؟ فقال: إعلم أني وردت مع الصابرين على الله عز وجل في درجة لم ينالوها إلا بالصبر على البلاء، والشكر عند الرخاء، فانتبهت (2).
وحكى الشعبي قال: رأيت رجلا وقد دفن ابنه، فلما حثا عليه التراب وقف على قبره، وقال: يا بني، كنت هبة ماجد، وعطية واحد (3)، ووديعة مقتدر، وعارية منتصر، فاسترجعك واهبك، وقبضك مالكك، وأخذك معطيك، فأخلفني الله عليك اصبر، ولا حرمني الله بك الأجر، ثم قال: أنت في حل من قلبي، والله أولى عليك بالتفضل مني.
ولما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، وأخوه سهل بن عبد العزيز، ومولاه مزاحم - في أيام متتابعة - دخل عليه بعض أصحابه يعزيه، وقال في جملة كلامه: والله ما رأيت مثل ابنك ابنا، ولا مثل أخيك أخا، ولا مثل مولاك مولى، فطأطأ رأسه، ثم قال: أعد علي ما قلت، فأعاده عليه، فقال: لا والذي قضى عليهم، ما أحب أن شيئا كان من ذلك لم يكن.
وقيل: بينما عمر بن عبد العزيز ذات يوم جالس إذ أتاه ابنه عبد الملك، فقال:
الله الله في مظالم بني أبيك فلان وفلان، فوالله لوددت أن القدور قد غلت بي وبك فيما يرضي الله، وانطلق فأتبعه أبوه بصره، وقال: إني لأعرف خير أحواله، قالوا، قالوا: وما خير أحواله؟ قال: أن يموت فأحتسبه.
ولما دخل عليه أبوه في مرضه فقال له: كيف تجدك؟ قال: أجدني في الموت، فاحتسبني يا أبه، فإن ثواب الله عز وجل خير لك مني، فقال: والله يا بني، لئن تكون ما في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك، فقال ابنه: لئن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب.
فلما مات وقف على قبره، وقال: رحمك الله يا بني، لقد كنت سارا مولود، وبارا ناشئا، وما أحب أني دعوتك فأجبتني.

(1) في نسخة (ش): ساعات.
(2) أخرجه المجلسي في البحار 82: 149.
(3) كذا، والمناسب للسياق، واجد بالجيم، والواجد: الغني، (الصحاح - وجد - 2: 547).
(٦٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 العقل والعدل الإلهي 18
2 أفعاله تعالى غاية مصلحة العبد 19
3 مثال واقعي في دفع المكروهات 20
4 منفعة الولد الدنيوية لأبيه مظنونة 21
5 لا نسبة بين آلام الدنيا وآلام الآخرة 22
6 في الجزع فوات مرتبة الرضا 23
7 الدنيا دار كدر وعناء 24
8 الدنيا قنطرة الآخرة 25
9 الدنيا دار الفناء 26
10 حب الله يقتضي الرضا بأفعاله 27
11 من صفات المحبين لله تعالى 28
12 الباب الأول: في بيان الأعواض الحاصلة عن موت الأولاد وما يقرب من هذا المراد الأعواض عن موت الأولاد 30
13 حكايات ومنامات عن ثواب موت الأولاد 42
14 الباب الثاني: في الصبر وما يلحق به 45
15 الصوم نصف الصبر 46
16 أحاديث شريفة في الصبر 47
17 ثواب الصبر 51
18 ما يثبت الأجر على المصيبة وما يحبطه 53
19 أثر الصلاة في تهوين المصائب 56
20 الجزع محبط للأجر 57
21 محاسن البلاء 58
22 الصبر والجزع كاشفان عن بواطن الناس 59
23 فصل: في نبذ من أحوال السلف عند موت أبنائهم وأحبائهم 60
24 فصل في ذكر جماعة من النساء نقل العلماء صبرهن 68
25 الباب الثالث: في الرضا 79
26 ثواب الراضين بقسمة الله 80
27 الرضا من المقامات العالية 81
28 من معاني الرضا 82
29 من علامات الرضا 83
30 مرتبة الرضا أعلى من مرتبة الصبر 84
31 درجات الرضا 85
32 وقائع ماضية عن الرضا بالقضاء 87
33 الدعاء يدفع البلاء، وسبب تأخير الإجابة 90
34 من أسباب تأخير الإجابة 91
35 الباب الرابع: في البكاء 92
36 البكاء لا ينافي الصبر ولا الرضا بالقضاء 93
37 من الأعمال المنافية للصبر والمحبطة للأجر 99
38 ثواب الاسترجاع عند المصيبة 101
39 النواح الجائز 103
40 استحباب تعزية أهل الميت 105
41 كيفية التعزية 108
42 ذكر المصيبة بفقد الرسول من أعظم المعزيات 110
43 حكايات من لطائف التعازي 111
44 البلاء على قدر الإيمان 113
45 رسالة الإمام الصادق عليه السلام يعزي بني عمه 116