مسكن الفؤاد - الشهيد الثاني - الصفحة ٦٠
فصل في نبذ من أحوال السلف عند موت أبنائهم وأحبائهم كانت العرب في الجاهلية - وهم لا يرجون ثوابا، ولا يخشون عقابا - يتحاظون (1) على الصبر، ويعرفون فضله، ويعيرون بالجزع أهله إيثارا للحزم، وتزينا بالحلم، وطلبا للمروة، وفرارا من الاستكانة إلى حسن العزاء، حتى كان الرجل منهم ليفتقد حميمه فلا يعرف ذاك منه، فلما جاء الاسلام وانتشر، وعلم ثواب الصبر واشتهر، تزايدت في ذلك لهم الرغبة، وارتفعت للمبتلين الرتبة.
قال أبو الأحوص: دخلنا على ابن مسعود وعنده بنون له ثلاثة غلمان كأنهم الدنانير حسنا، فجعلنا نتعجب من حسنهم، فقال: كأنهم تغبطوني بهم؟ قلنا: إي والله، بمثل هؤلاء يغبط المرء المسلم فرفع رأسه إلى سقف بيت قصير، قد عشش فيه الخطاف وباض، فقال: والذي نفسي بيده لئن أكون نفضت يدي من تراب قبورهم، أحب إلي من أن يسقط عش هذا الخطاف، وينكسر بيضه، يعني: حرصا على الثواب.
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقرئ الناس القرآن في المسجد جاثيا على ركبتيه، إذا جاءت أم ولده بابن له، يقال له: محمد فقامت على باب المسجد، ثم أشارت له إلى أبيه، فأقبل، فأفرج له القوم حتى جلس في حجره، ثم جعل يقول: مرحبا بسمي من هو خير منه، ويقبله حتى كاد يزدرد ريقه.
ثم قال: والله لموتك وموت إخوتك أهون علي من عدتكم من هذا الذباب (2)، فقيل: لم تتمنى هذا؟ فقال: اللهم غفرا إنكم تسألوني، ولا أستطيع إلا أن أخبركم، أريد بذلك الخير، أما أنا فاحرز أجورهم، وأتخوف عليهم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (يأتي عليكم زمان يغبط الرجل بخفة الحال، كما يغبط اليوم بكثرة المال والولد).
وكان أبو ذر رضي الله عنه لا يعيش له ولد، فقيل له: إنك امرؤ لا يبقى لك ولد، فقال الحمد لله الذي يأخذ من دار الفناء، ويدخرهم في دار البقاء (3).

(١) في (ح) يحافضون.
(٢) في (ش): الذبان.
(٣) رواه المتقي الهندي في منتخب كنز العمال ١: ٢١٢، وأخرجه المجلسي في البحار 82: 142.
(٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 العقل والعدل الإلهي 18
2 أفعاله تعالى غاية مصلحة العبد 19
3 مثال واقعي في دفع المكروهات 20
4 منفعة الولد الدنيوية لأبيه مظنونة 21
5 لا نسبة بين آلام الدنيا وآلام الآخرة 22
6 في الجزع فوات مرتبة الرضا 23
7 الدنيا دار كدر وعناء 24
8 الدنيا قنطرة الآخرة 25
9 الدنيا دار الفناء 26
10 حب الله يقتضي الرضا بأفعاله 27
11 من صفات المحبين لله تعالى 28
12 الباب الأول: في بيان الأعواض الحاصلة عن موت الأولاد وما يقرب من هذا المراد الأعواض عن موت الأولاد 30
13 حكايات ومنامات عن ثواب موت الأولاد 42
14 الباب الثاني: في الصبر وما يلحق به 45
15 الصوم نصف الصبر 46
16 أحاديث شريفة في الصبر 47
17 ثواب الصبر 51
18 ما يثبت الأجر على المصيبة وما يحبطه 53
19 أثر الصلاة في تهوين المصائب 56
20 الجزع محبط للأجر 57
21 محاسن البلاء 58
22 الصبر والجزع كاشفان عن بواطن الناس 59
23 فصل: في نبذ من أحوال السلف عند موت أبنائهم وأحبائهم 60
24 فصل في ذكر جماعة من النساء نقل العلماء صبرهن 68
25 الباب الثالث: في الرضا 79
26 ثواب الراضين بقسمة الله 80
27 الرضا من المقامات العالية 81
28 من معاني الرضا 82
29 من علامات الرضا 83
30 مرتبة الرضا أعلى من مرتبة الصبر 84
31 درجات الرضا 85
32 وقائع ماضية عن الرضا بالقضاء 87
33 الدعاء يدفع البلاء، وسبب تأخير الإجابة 90
34 من أسباب تأخير الإجابة 91
35 الباب الرابع: في البكاء 92
36 البكاء لا ينافي الصبر ولا الرضا بالقضاء 93
37 من الأعمال المنافية للصبر والمحبطة للأجر 99
38 ثواب الاسترجاع عند المصيبة 101
39 النواح الجائز 103
40 استحباب تعزية أهل الميت 105
41 كيفية التعزية 108
42 ذكر المصيبة بفقد الرسول من أعظم المعزيات 110
43 حكايات من لطائف التعازي 111
44 البلاء على قدر الإيمان 113
45 رسالة الإمام الصادق عليه السلام يعزي بني عمه 116