الاحكام - ابن حزم - ج ٣ - الصفحة ٢٦٥
والجواب عن هذا السؤال السخيف وبالله تعالى التوفيق: أنا قد أخبرنا - فيما خلا وفي سائر كتبنا - بأننا مضطرون إلى معرفة أن الأشياء حقائق، وأنها موجودة على حسب ما هي عليه، وبأنه لا يدري أحد كيف وقع له ذلك وبينا أن هذه المعرفة - التي اضطرنا إليها، وخلقها الباري تعالى في أنفسنا في أول أوقات فهمنا بعد تركيبها في الجسد، هي أصل لتمييز الحقائق من البواطن، وهي عنصر لكل معرفة، وإننا عرفنا إيجاب الأوامر ببديهة العقل وبالتمييز الموضوعين فينا، لنعرف بها الأشياء على ما هي عليه، فعلمنا أن الحجر صليب، وأن الماء سيال في طبعه، وإن انتقل إلى الجمود في بعض أحواله، وأن قول القائل: فلان أحمق، ذم، وأن قوله: فلان عاقل مدح، وأن الامر عنصر من عناصر الكلام التي هي خير ودعاء واستفهام وأمر، فلما استقر في النفس أن إرادة الامر أن يفعل المأمور ما يأمره به، معنى قائم في النفوس لم يكن له بد من عبارة يقع بها التفاهم، وعلمنا ذلك أيضا بنصوص سنذكرها في تمام إبطال ما شغبتم به إن شاء الله تعالى، وبالله نتأيد وإياه نستعين.
هذا كل ما احتج به القائلون بالوقف ولا مزيد، فقد أبطلناه بالبرهان الضروري بتوفيق الله تعالى وتعليمه لا إله إلا هو، إلا أن ابن المنتاب المالكي أتى بعظيمة فلزمنا التنبيه عليها إن شاء الله تعالى وذلك أنه قال: إن من الدليل على أن الأوامر على الوقف قول الله تعالى مخبرا عن أهل اللغة الذين هم العرب:
(ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا فال فلو كانت الأوامر على الوجوب، والألفاظ على العموم، لما كان لسؤالهم عما قاله عليه السلام معنى إذ لو فهم الوجوب والعموم من نفس اللفظ لكان سؤالهم فاسدا.
قال علي: لا يشبه هذا القول احتجاج مسلم، لان الله تعالى حكى هذا الاعتراض عن قوم منافقين كفار، لم يرض فعلهم ولا سؤالهم، وإنما حكى الله عز وجل ذلك عنهم منكرا عليهم، وقد قال تعالى أو يكفهم أنا أنزلنا عليك
(٢٦٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 260 261 262 263 264 265 266 267 268 269 270 ... » »»
الفهرست