الاحكام - ابن حزم - ج ٣ - الصفحة ٢٦٣
قال علي: وفي هذا إبطال الكلام كله وإبطال التفاهم وفساد الحق والشرائع كلها والعلوم كلها، لأنه لا قول إلا وقد يوجد موضوعا في غير بنيته في اللغة، إما على المجاز أو الاتفاق بين المتخاطبين، فلو وجب من أجل ذلك أن يبطل حمل الأسماء على معانيها التي رتبت لها في اللغة لبطل كل ما ذكرنا، وكفى فسادا بكل قول أدى إلى إبطال الحقائق، وبالله تعالى التوفيق قال علي: فإن قالوا: إنا لم نوافقكم على أن لفظ الامر موضوعه في اللغة الوجوب، فيلزمنا ما ألزمتمونا، وإنما قلنا: إنه ليس موضوعه في اللغة الوجوب دون الندب، ولا الندب دون الوجوب.
قال علي: فنقول وبالله تعالى التوفيق: قد أبطلنا في كلامنا هذا جواز وقوع لفظ الامر على الوجوب وعلى الندب معا، وفرقنا بين ذلك وبين وقوع الألفاظ المشتركة مثل لون وعير على معان شتى، وبينا أن ذلك جائز ممكن موجود، وأن وقوع لفظ الامر على الوجوب وعلى الندب معا محال ممتنع لا سبيل إليه، ولا يتشكل في العقل البتة فصح ضرورة أن لفظ الامر موضوع في أصل اللغة، إما للوجوب فقط - ثم نقل بدليل كما ذكرنا في بعض المواضع إلى الندب، أو إلى غير الوجوب من سائر المعاني التي سنبينها إن شاء الله تعالى، وإما أنه موضوع في أصل اللغة للندب خاصة، أو لمعنى ما من سائر المعاني التي قد وردت بلفظ الامر، ثم نقل إلى الوجوب بدليل، فهذا هو الذي يتشكل في العقل، وأما احتمال وقوع لفظ الامر على الندب والوجوب معا في وقت واحد، فهذا باطل لأنه يوجب أن ورود الامر لا حقيقة له أصلا، ولا له معنى البتة، وهذا أحمق من قول السوفسطائية فهذا الذي أردنا أن نبين إحالته، وقد صح والحمد لله.
ولا بد لكم من المصير إلى أحد الخبرين ضرورة، إما أن تقولوا: لفظ الامر موضوع للوجوب في اللغة، حتى يصح دليل بنقله إلى غير الوجوب، وهذا قولنا، وإما أن تقولوا: لفظ الامر موضوع لغير الوجوب في اللغة، حتى يصح دليل ينقله إلى الوجوب، فإن قلتم ذلك، سهل أمركم بقول وجيز بحول الله وقوته، وحسبنا أن قد قلعناكم بلطف الله عن مكان الشغب على الجهال، وذلك أن قول القائل:
الأوامر كلها على غير الوجوب حتى يصح دليل نقلها إلى الوجوب، دخول
(٢٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « 259 260 261 262 263 264 265 266 267 268 269 ... » »»
الفهرست