الاحكام - ابن حزم - ج ٣ - الصفحة ٢٦١
وهذا غير ممكن في الأوامر التي أرادوا أن يشبهوها بالأسماء التي ذكرنا، لأنه إذا قيل لنا: افعلوا، وكان هذا اللفظ ممكنا أن يراد به الايجاب وممكنا به الندب أو الإباحة، فلا سبيل في بنية الطبيعة إلى حمله على كل الوجوه التي ذكرنا، إذ ممتنع بالضرورة أن يكون الشئ ملزما ولا بد، ومباحا تركه في وقت واحد لانسان واحد، هذا محال لا يمكن ولا يقدر عليه، فيبطل تشبيههم، وصح أن الامر لو كان كما ذكروا لكان غير مقدر على الائتمار له أبدا، ولو كان ذلك لبطل الامر كله ضرورة، وإذ قد صح ورود الامر من الله عز وجل، وصح التخاطب بالأوامر في اللغة بين الناس، علمنا أنه لا يجوز أن يخاطبنا تعالى بما لا سبيل إلى الائتمار له وبالمحالات التي لا نقدر عليها، وصح أن الامر مراد به معنى مختص بلفظه وبنيته وليس ذلك إلا كون ما خوطب به المأمور، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي: وإنما الذي ذكروا من أنهم قد وجدوا أوامر معناها الندب فصدقوا، والوجه في ذلك أننا قد وجدنا في اللغة ألفاظا نقلت على معهودها وعن موضوعها في اللسان، وعلقت على أشياء أخر، فعل ذلك خالق اللغة وأهلها الذي رتبها كيف شاء عز وجل، أو فعل في ذلك بعض أهل اللغة من العرب، أو فعل ذلك مصطلحان فيما بينها، كما نقل تعالى اسم الصلاة عن موضوعها في اللغة، عن الدعاء إلى استقبال الكعبة، ووقوف وركوع وسجود وجلوس، بصفات محدودة لا تتعدى، وكما نقل تعالى اسم الصيام عن الوقوف إلى امتناع الأكل والشرب والوطئ في أيام معلومة، وكما نقل اسم الكفر عن التغطية إلى أقوال محدودة ونيات معلومة، فإذا قد وجدنا ذلك لزمنا، إذ قام دليل، على أن لفظا ما قد نقل عن موضوعه من اللغة، ورتب في مكان آخر أن يعتقد ذلك، وإما ما لم يقم دليل على نقله فلا سبيل إلى إحالته عن مكانه البتة، وقد قال بعض المفسدين للحقائق، المتكلمين بما لا يعقل، ليس هذا نقلا، إنما النقل ما لم يجز أن يبقى على ما نقل عنه.
قال علي: وهذا تحكم لا يعرفه أهل اللغة، بل كل حال أحيلت، فقد تنقل حكمها عما كان عليه، والاسم إذا وقع على معنى ما فأوقعه الله تعالى أيضا على معنى آخر، فقد نقله على حكم الوقوع على معنى واحد إلى حكم الوقوع على معنيين، وأيضا
(٢٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « 259 260 261 262 263 264 265 266 267 268 269 ... » »»
الفهرست