الاحكام - ابن حزم - ج ٣ - الصفحة ٢٦٤
في عظيمتين: إحداهما خرق الاجماع، فما قال بهذا أحد قط، وإنما شغب من شغب بالموقف، وبما قدمنا إبطاله من احتمال الامرين، والثانية: إبطال فائدة العقل، لأنه يصير حينئذ قائلا: إن الموضوع في اللغة من لفظة افعل: لا تفعل إن شئت، وهذا خلاف فهم جميع أهل اللغات، لان الثابت في فطرة العقل أن النهي عن الشئ غير الامر به، وكفى، مع أن الاجماع على ترك هذا القول كاف عن تكلف دليل.
وبرهان ضروري: وهو أنه إن كانت لفظة افعل موضوعة لغير الايجاب إلا بدليل يخرجها إلى الايجاب، وكانت أيضا لفظة لا تفعل موضوعة لغير التحريم إلا بدليل يخرجها إلى التحريم، وكان كلتا اللفظتين تعطي: افعل إن شئت أو لا تفعل إن شئت، فقد صار ولا بد من المفهوم من لا تفعل هو المفهوم من افعل، وهذا لا يقوله ذو مسكة عقل.
قال علي: قالوا: وبأي شئ يدل على أنه على الوجوب أبنفسه أم بدليله؟
فإن قلتم: بنفسه ففي ذلك اختلفنا، وإن كان بدليله، فإذا لم يدل هو فدليله أحرى أن لا يدل.
قال علي: وهذا شغب فاسد ضعيف جدا. تعلقوا إليه من قبل مبطلي الحقائق، فإنهم قد سألونا بهذا السؤال نفسه فقالوا: بماذا ثبت عندكم أن الأشياء حق؟
أبأنفسها ففيها اختلفنا، أم بغيرها فلا شئ في العالم يوجد من غير الأشياء الموجودة، وليس غير الأشياء إلا لا شئ؟ فإذا لم يدل الشئ على حقيقة نفسه فلا شئ أحرى ألا يدل، وتعلق أيضا بهذا السؤال مبطلو دلائل العقل فقالوا: بأي شئ علمتم صحة ما يدل عليه العقل؟ أبالعقل أم بغير العقل؟ ونحو هذا من الهذيان كثير، وهؤلاء القوم في شعبة من طريق مبطلي الحقائق ومبطلي مدركات العقل.
ونعكس عليهم سؤالهم هذا السخيف الذي صححوه - فهو لازم لهم لا لنا - إذ لم نصححه ونقول لهم: بأي شئ يدل الامر على أنه على الوقف، أبنفسه أم بدليله؟
فإن قلتم بنفسه ففي ذلك اختلفنا، وإن كان بدليله، فإذا لم يدل هو فدليله أحرى ألا يدل، فمن أحمق استدلالا ممن دليله عائد عليه، وهادم لقوله؟ وإنما هم قوم لا يحققون شيئا، إنما هم في سبيل التشغيب على الضعفاء، وما يخدعون إلا أنفسهم.
(٢٦٤)
مفاتيح البحث: النهي (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « 259 260 261 262 263 264 265 266 267 268 269 ... » »»
الفهرست