الاحكام - ابن حزم - ج ٣ - الصفحة ٢٦٩
منها بدليل، ونقول قبل ذلك: إنما لجأ إلى القول بالوقف وتعلق بهذه العوارض، وسلك في هذه المضايق من بهر شعاع الحق عقله، والتمع نور الله تعالى بصر قلبه، وارتبك في غيه ناصرا لما قد ألفه من الأقوال الفاسدة، وطمعا في إطفاء ما لا ينطفئ من ضياء الحق، وإنما التزموا ذلك في مسائل يسيرة، ثم تناقضوا فأوجبوا أحكاما كثيرة، فرضا بنفس الامر مما قد خالفهم فيها غيرهم، وفعلت كل طائفة منهم مثل ما فعلت الأخرى.
قال أبو محمد: فأول ذلك أنه لا يعقل أحد من أهل كل لغة أي لغة كانت من لفظة افعل أو اللفظة التي يعبر بها في كل لغة عن معنى: افعل، ولا يفهم منها أحد لا تفعل، ولا يعقل أحد من لفظة لا تفعل، أو مما يعبر به عن معنى: لا تفعل، ولا يفهم منها أحد افعل، ومدعي هذا على اللغات وأهلها في أسوأ من حال الكهان وقد قال تعالى: * (قتل الخراصون) *.
قال علي: ويقال لهم: بأي شئ تعرفون أن في الأوامر شيئا على الوجوب مما تقرون فيه أنه واجب، فأجابوا عن ذلك بجوابين، أحدهما: إن قال بعضهم:
نعرف أن الامر على الوجوب إذا اقترن معه وعيد. وقال بعضهم: لسنا نجدد دلائل الوجوب، وهي أشياء تقترن بالأوامر التي يراد بها الايجاب، ولسنا نقدر على العبارة عنها.
قال علي: أما هؤلاء فقد أقروا بالانقطاع وبالعجز عن بيان مذهبهم، وإذا كان شئ لا يقدر على بيانه، فباليقين أن العجز عن نصره أوجد وليس يعجز أحد له لسان، وليس له حياء ولا ورع، أن يدعي ما شاء فإذا سئل عن دليل قوله وبيانه قال: إني لا أقدر على بيانه، ولكنه شئ معلوم إذا عرف.
قال علي: ولسنا ممن يجوز عليه هذا الهذيان، ولكنا نقول لمن هذا: صف لنا حال نفسك في معرفتك ما عرفت أنه واجب، فإن عجزت عن ذلك بان كذبك وادعاؤك الباطل: لان كل واحد يدعي حالا يستدل بها على حقيقة ليست من أوائل المعارف فهو مميز لتلك الحال والا فهو مدع للباطل.
(٢٦٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 264 265 266 267 268 269 270 271 272 273 274 ... » »»
الفهرست