الاحكام - ابن حزم - ج ٣ - الصفحة ٣١٥
نفسه. وتخالف أيضا بنية النهي بنية الامر في وجه آخر، وهو أن ما ورد نهيا بلفظ أو فهو نهي عن الجميع، مثل قوله تعالى: * (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) * ومثل قولك لا تقتل زيدا أو عمرا أو خالدا، فهو يقتضي النهي عن قتلهم كلهم، وما ورد أمرا بلفظ، أو فهو تخيير في أحد الأقسام المذكورة مثل قولك:
كل خبزا أو تمرا أو لحما، وخذ هذا أو هذا. والنهي يقتضي اجتناب المنهى عنه، كما أن الامر يقتضي إتيان المأمور به، وقد بينا أن النهي عن الشئ أمر بتركه، والامر بالترك يقتضي وجوب الترك، وبينا أن الامر بالشئ نهي عن تركه، فالنهي عن الترك يقتضي الفعل الذي بوقوعه يرتفع تركه، وبالله تعالى التوفيق.
وقد اعترض في هذا بعض أهل الشغب فقال: لو كان الامر بالشئ نهيا عن تركه، أو كان النهي عن الشئ أمرا بتركه، لكان العلم بالشئ جهلا بضده.
قال علي: وحكاية هذا الكلام الساقط تغني عن تكلف الرد عليه، لأنه رام التشبيه بين ما لا تشابه بينه، وهو بمنزلة من قال: لو كان الموت ضد الحياة لكان السمع ضد البصر، ومثل هذا من الغثائث ينبغي لمن كان به رمق أن يرغب بنفسه عنه، ولكن من لم يعد كلامه من عمله كثرت أهذاره، ومن لم يستح فعل ما شاء، وأما العلم بالشئ، فهو على الحقيقة عدم العلم بضده، لان علمك بأن زيدا حي، وهو عدم العلم، وبطلان العلم بأنه ميت، وقول القائل: لا نأكل لا شك عند كل ذي حس أن معناه: اترك الاكل ولا فرق. وهذا من المتلائمات. وقد أفردنا لهذا بابا في كتاب التقريب وبطل مما ذكرنا قول من قال: النهي نوع من أنواع الامر، وقول من قال: الامر نوع من أنواع النهي وصح أن كل أمر فهو أيضا نهي، وكل نهي فهو أيضا أمر.
فإن قال قائل: قد يرد أمر ليس فيه نهي عن شئ أصلا، وهو أمر الإجابة.
وقال آخر: قد يرد نهي ليس فيه معنى من الامر أصلا، وهو نهي عن الاختيار للترك.
قال علي: كلاهما مخطئ، أما الامر بالإباحة فإنما معناه إن شئت افعل، وإن شئت لا تفعل، فليس مائلا إلى الامر إلا كميله إلى النهي ولا فرق، وكذلك القول في نهي الاختيار للترك، وهو الكراهية ولا فرق، وهكذا أمر الندب ولا فرق، وفيه معنى إباحة الترك موجود، وبالله تعالى التوفيق.
(٣١٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 310 311 312 313 314 315 316 317 318 319 320 ... » »»
الفهرست