الاحكام - ابن حزم - ج ٣ - الصفحة ٣٤٧
وهذا أمر معلوم لا ينكره ذو عقل، وقد يحسن ذلك الشريعة أيضا من طالب راحة أو تخفيف، كما سأل ابن أم مكتوم إذ نزلت آية المجاهدين، فطلب أن يخرج له عذر من عموم اللفظ الوارد، وقد كان له كفاية في غير هذه الآية في قوله تعالى : * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) * وما أشبه ذلك، وكسؤال العباس في الإذخر فاستثنى من العموم في النهي عن أن يختلى خلا الحرم بمكة، وقد يحسن أيضا الاستفهام في العدد، كقول القائل: أتاني عشرة من الناس في أمر كذا فيقول له السامع: أعشرة؟ فيقول: نعم وذلك نحو قول الله عز وجل: * (ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) * فقد كنا نعلم لو لم يذكر تعالى العشرة، إن ثلاثة وسبعة عشرة، وقد كنا نعلم بقوله تعالى: * (تلك عشرة) * إنها عشرة، ولكنه تعالى ذكر * (كاملة) * كما شاء، فلما صح كل ما ذكرناه وحسن الاستفهام عن اسم واحد، وعن العدد وهو لا يحتمل صرفا عن وجهه أصلا، ولم يكن ذلك مجيزا لوقوع اسم الواحد على أكثر من واحد، وكذلك في العدد - لم يكن أيضا وقوع الاستفهام في العموم، موجبا لاسقاط حمله على العموم، وبالله تعالى التوفيق.
وقالوا أيضا: أرأيتم قولكم بالعموم؟ أبعموم قلتموه وعلمتم صحته، أم بغير عموم؟
قال علي: وهذا من الهذيان الذي قد تقدم إبطالنا إياه في كلامنا في حجة العقل، وهو سخف أتى به بعض السوفسطائيين القاصدين إبطال الحقائق، وهو ينعكس عليهم في قولهم بالخصوص وفي قولهم بالوقف، فيقال لهم: أرأيتم قولكم بالوقف، أبو قف قلتموه وعلمتموه أم بغير وقف؟ وأرأيتم قولكم بالخصوص، أبخصوص قلتموه وعلمتموه أم بغير خصوص؟ والجواب الصحيح المبين لجهلهم: هو أننا نقول، وبالله تعالى التوفيق: إنما قلنا بالعموم استدلالا بضرورة العقل الحاكم بأن اللغة إنما هي رتبت لكل معنى في العالم، عبارة مبينة عنه موجبة للتفاهم بين المخاطب والمخاطب، ولأننا وجدنا الأجناس العامة للأنواع الكثيرة، ووجدنا الأنواع العامة للأشخاص الكثيرة - يخبر عنها بأخبار، وترد فيها شرائع لوازم، فلا بد ضرورة من لفظ يخبر به عن الجنس كله، وهذا لا بد منه، وإلا بطل الخبر عن الأجناس، وهذا ما لا سبيل إليه أصلا،
(٣٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 342 343 344 345 346 347 348 349 350 351 352 ... » »»
الفهرست