وتقترن حتمية الموت لدى المتنبي بالشجاعة وضرورة الموقف الحازم الحاسم، فهو يقول:
نحن بنو الموتى فما بالنا * نعاف ما لا بد من شربه تبخل أيدينا بأرواحنا * على زمان هي من كسبه يموت راعي الضأن في جهله * ميتة جالينوس في طبه فلا قضى حاجته طالب * فؤاده يخفق من رعبه ويقول أيضا:
وإذا لم يكن من الموت بد * فمن العجز أن تموت جبانا أما الشريف الرضي فقد أودع فكرة الموت وحكمته في العديد من قصائده منطلقا من عذاب الروح الذي ساقه في دروب الاغتراب الطويل، فاغتراب الروح هو الاغتراب الأكبر، الذي كان الشاعر ينظر من داخله إلى وضعه الشخصي، وحياته، ومماته.
فلقد رأى في سجن الروح في جسده السجن الذي تتضاءل دونه العذابات الأخرى. فقال الشريف الرضي:
كل حبس يهون عند الليالي * بعد حبس الأرواح في الأجساد وهو بيت شعر من قصيدة جاء فيها:
كل حي يغالط العيش بالدهر * وكل تعدو عليه العوادي لو رجعنا إلى العقول يقينا * لرأينا الممات في الميلاد كيف لا يطلب الحمام عليل * حكم الدهر فيه رأي المعاد ويسمو الرضي في ذكر الموت، وفي وعظ الناس، والتذكر بالقيم الإنسانية المجيدة الحرية، والشجاعة، ورفض الذل، الخ، ويأخذ الرثاء عنده مهمة توجيه العزاء بواسطة الحكمة.
فقال يرثي بنت صديق له:
عجزنا عن مراغمة الحمام * وداء الموت مغرى بالأنام وما جزع الجزوع وإن تناهى * بمنتصف من الداء العقام وأين نحور عن طرق المنايا * وفي أيدي الردى طرف الزمام هي الأيام تأكل كل حي * وتعصف بالكرام وباللئام وكل مفارق للعيش يلقى * كما لقي الرضيع من الفطام وكم ليد النوائب من صريع * بداء السيف أو داء السقام وما يغتر بالدنيا لبيب * يفر من الحياة إلى الحمام تنافر ثم ترجع بعد وهن * رجوع القوس ترمح بالسهام خطوب لا أجم لها جوادي * وعزم لا أحط له لثامي رأيت الموت يبلغ كل نفس * على بعد المسافة والمرام سواء إن شددت له حزيمي * زماعا أو حللت له حزامي عزاءك ما استطعت فكل حزن * يؤول به الغلو إلى الآثام وعمر المرء ينقص كل يوم * ولا عمر يقر على التمام وتختلف فلسفة الشريف الرضي في الموت، عن فلسفة أبي العلاء المعري، وذلك في قضية رئيسية وهي أن الشريف الرضي صاحب رسالة، وكانت الرسالة لا تمثل طموحه فقط، بل وتمثل طموح نسبة كبيرة من الموالين والأشياع. كان قائدا له أتباع أوفياء رغم قلتهم.
ومن موقعه ذاك، كانت رؤيته للموت مليئة بالأفكار الايجابية التي كانت تعبر أفضل تعبير عن الموقف في حياة الشريف الرضي.
في حين كانت رؤية أبي العلاء المعري للموت تشاؤمية، بالغة التشاؤم، كما نرى في هذه المقتطفات من شعره:
أنا صائم طول الحياة وإنما * فطري الحمام ويوم ذاك أعيد و:
نصحتك فاعمل له دائما * وإن جاء موت فقل مرحبا و:
ما أوسع الموت يستريح به * الجسم المعنى ويخفت اللجب و:
يدل على فضل الممات وكونه * إراحة جسم أن مسلكه صعب و:
إذا غدوت ببطن الأرض مضطجعا * فثم أفقد أوصابي وأمراضي و:
الموت جنس ما تميز واحد * كتل الجسوم إلى التراب تنسب وترتفع نزعة التشاؤم بقوله:
يحطمنا ريب الزمان كأننا * زجاج ولكن لا يعاد له سبك وإذا كانت القضية التي رفع لواءها الشريف وهي قضية سياسية وأيديولوجية وأخلاقية، هي التي عصمته من الوقوع في تشاؤمية مفرطة، فإنها لم تفلح من جانب آخر في إخفاء الحزن العتيد، حزن الشريف.
وتشهد بكائيات ورثائيات الشريف الرضي على مدى تغلغل الحزن في أعماقه، وكذلك مدى تجاوبه مع الحزانى والمنكوبين.
ويذكر د. زكي مبارك أن الرضي كان يجد من نوائبه الوجدانية ينابيع للحزن لا تنضب ولا تغيض وعن بكائه يقول: وما كان الشريف يبكي أحبابه مرة واحدة ثم يلوذ بالصمت. لا، وإنما كان يصل أحبابه بالذكرى والحنين فلا يفقد منهم غير الوجود الملموس. فطريق الحج على طوله في تلك العهود كان يمثل للشريف دائما أمما كثيرة من عوالم الأحياء والأموات. ولعل ظهور الخيل لم تعرف فتى أقوى شاعرية من ذلك الفتى البكاء. والفرح والترح يفيضان من ينبوع واحد لو تعلمون.
من ناحية سيكولوجية إن البكائين الأصلاء هم غالبا من الذين تجمعت في نفوسهم شمائل جمة هي شدة الحب، وشدة الصدق، وقوة رهافة الاحساس.
ومن المظاهر السلبية للثقافات الشائعة في عصور الاستبداد والتحجر، أنها صورت البكاء تعبيرا عن الضعف البشري، والحال أنه تعبير عن عاطفة بشرية حقيقية لا يستطيع كبتها إلا أكثر الناس قساوة وتجبرا.
ومن المعروف أن المصلحين الكبار ذوي القلوب الإنسانية العامرة بحب الناس، وبالحكمة، هم أكثر الناس بكاء، وهم على ما هم عليه من شجاعة وبسالة ويقين.