الاحكام - ابن حزم - ج ٧ - الصفحة ١٠٢٧
قال أبو محمد: هذه شغبية فاسدة، فأول تمويههم ذكرهم الغائب والحاضر في باب الشرائع، وقد علم كل مسلم أنه ليس في شئ من الديانة شئ غائب عن المسلمين، وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين للناس دينهم اللازم لهم، قال تعالى:
* (لتبين للناس ما نزل إليهم) * فلا يخلو رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يكون لم يبلغ ولا بين للناس، فهذا كفر ممن قاله بإجماع الأمة بلا خلاف. وإما أن يكون صلى الله عليه وسلم بلغ كما أمر به، وبين للناس جميعهم دينهم وهذا هو الذي لا شك فيه، فأين الغائب من الدين ههنا لو عقل هؤلاء القوم؟
إلا أن يكون هؤلاء القوم، وفقنا الله وإياهم، يتعاطون استخراج أحكام في الشريعة لم ينزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي غائبة عنا، فهذا كفر ممن أطلقه وأعتقده، وتكذيب لقول الله عز وجل: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا هل بلغت قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد.
وأما تمويههم بذكر النار، ولعل في الغائب نارا باردة، فكلام غث في غاية الغثاثة، لان لفظة نار إنما وقعت في اللغة على كل حار مضئ صعاد، فإن كنتم تريدون أن ههنا مضيئا باردا غير صعاد فنعم وهو البلور وإن كنتم تريدون أن شيئا حارا يكون باردا، فهذا تخليط وعين المحال.
وأما لفظة نار فقد وقعت أيضا في اللغة على ما لا يحرق، فالنار عند العرب اسم الميسم الذي توسم به الإبل، فيقولون: ما نارها، بمعنى ما وسمها، فليس الاسم مضطرا إلى وجوده كما هو ولا بد، ولكنه اتفاق أهل اللغة، وليس من قبل أننا شاهدنا النار محرقة صعادة مضيئة، وجب ضرورة أن تسمى نارا ولابد، بل لو سموها باسم آخر ما ضر ذلك شيئا. وليس أيضا من قبل أننا شاهدنا النار على هذه الهيئة، عرفنا أن ما غاب عنا منها كذلك أيضا، بل قد علمنا أن أهل اللغة لم يوقعوا اسم نار في الغائب والحاضر إلا على الحار المضئ المحرق الصعاد.
فإن قلتم: فلعل في الغائب جسما مضيئا باردا صعادا قلنا لكم: هذا ما لا دليل عليه، والقول بما لا دليل عليه غير مباح، وقد عرفنا صفات العناصر كلها إلا إن قلتم: لعل الله تعالى عالم بهذه الصفة، فالله تعالى قادر على ذلك، ولكنه
(١٠٢٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 1022 1023 1024 1025 1026 1027 1028 1029 1030 1031 1032 ... » »»
الفهرست