الاحكام - ابن حزم - ج ٧ - الصفحة ١٠٢٨
تعالى لم يخلق في هذا العالم، مما شاهدنا بالحواس أو بالعقل أو بالمقدمات الراجعة إلى الحواس والعقل، غير ما شاهدنا بذلك، ولعله تعالى قد خلق عوالم بخلاف صفة عالمنا هذا، إلا أن هذا أمر لا نحققه ولا نبطله، ولكنه ممكن والله أعلم، ولا علم لنا إلا ما علمنا الله، وبالله تعالى التوفيق.
واحتجوا أيضا فقالوا: إن في النصوص جليا وخفيا، فلو كانت كلها جلية لاستوى العالم والجاهل في فهمها، ولو كانت كلها خفية لم يكن لاحد سبيل إلى فهمها، ولا إلى علم شئ منها، قالوا: فوجب بذلك ضرورة أن نستعمل القياس من الجلي على معرفة الخفي.
قال أبو محمد: وهذه مقدمة فاسدة، والاحكام كلها جلية في ذاتها، لان الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * ولا يحل لمسلم أن يعتقد أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالبيان في جميع الدين فلم يفعل ولا بين، وهذا ما لا يجوز لمسلم أن يخطره بباله، فإذ لا شك في هذا، ونوقن أنه صلى الله عليه وسلم قد بين الدين كله. فالدين كله بين، وجميع أحكام الشريعة الاسلامية كلها جلية، واضحة، وقد قال عمر رضي الله عنه: تركتم على الواضحة، ليلها كنهارها، أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا، وقال أيضا رضي الله عنه: سننت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، إلا أن يضل رجل عن عمد.
قال أبو محمد: إلا أن من الناس من لا يفهم بعض الألفاظ الواردة في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم، لشغل بال أو غفلة أو نحو ذلك، وليس عدم هذا الانسان فهم ما خفي عليه بمانع أن يفهمه غيره من الناس، وهذا أمر مشاهد يقينا، وهكذا عرض لعمر رضي الله عنه إذا لم يفهم آية الكلالة وفهمها غيره، وقال عمر رضي الله عنه: اللهم من فهمته إياها فلم يفهمها عمر. وقال: ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شئ ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي بشئ ما أغلظ لي فيها، إلى أن طعن بأصبعه في صدري وقال لحفصة: ما أراه يفهمها أبدا أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فصح ما قلناه يقينا، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن آية الصيف كافية الفهم وأن عمر لم يفهمها، ليس لأنها غير كافية، بل هي كافية بينة، ولكن لم ييسر لفهمها.
(١٠٢٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 1023 1024 1025 1026 1027 1028 1029 1030 1031 1032 1033 ... » »»
الفهرست