الاحكام - ابن حزم - ج ٦ - الصفحة ٨٣٦
سائر المعاملات، فاعلم الآن: أن قبول ما صح بالنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وقبول ما أوجبه القرآن بنصه وظاهره، وقبول ما أجمعت عليه الأمة، ليس تقليدا، ولا يحل لاحد أن يسميه تقليدا، لان ذلك تلبيس وإشكال، ومزج الحق بالباطل، لان التقليد على الحقيقة إنما هو قبول ما قاله قائل دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير برهان. فهذا هو الذي أجمعت الأمة على تسميته تقليدا، وقام البرهان على بطلانه، وهو غير ما قام البرهان على صحته، فحرام أن يسمى الحق باسم الباطل، والباطل باسم الحق، وقد قال تعالى: * (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) * وقد أنذر عليه السلام بقوم يستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها.
وقد احتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى: * (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) * قالوا: وقد أوجب الله تعالى على الناس قبول نذارة المنذر لهم، قالوا وهذا أمر منه تعالى بتقليد العامي للعالم.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لان الله تعالى لم يأمر قط بقبول ما قال المنذر مطلقا، لكنه يقال: إنما أمر بقبول ما أخذ ذلك في تفقههم في الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الله عز وجل، لا ما اخترع مخترع من عند نفسه، ولا ما زاد زائد في الدين من قبل رأيه، ومن تأول ذلك على الله عز وجل، وأجاز لاحد من المخلوقين أن يشرع شريعة غير منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم - فقد كفر وحل دمه وماله، وقد سمى الله من فعل ذلك مفتريا فقال تعالى: * (آلله أذن لكم أم على الله تفترون) *.
قال أبو محمد: وظن قوم أنهم تخلصوا من التقليد بوجه به تحققوا بالدخول فيه، وتوسطوا عنصره، وهو أنهم يبطلون حجاجا تؤيد ما وجدوا أسلافهم عليه فقط، ثم لا يبالون أشغبا كانت الحجاج أم حقا، ويضربون عن كل حجة خالفت قولهم. فإن كانت آية أو حديثا تأولوا فيها التأويلات البعيدة، وحرفوهما عن مواضعهما فدخلوا في قوله تعالى: * (يحرفون الكلم عن مواضعه) * فإن أعياهم ذلك قالوا: هذا خصوص، وهذا متروك وليس عليه العمل.
قال أبو محمد: وهذا أقبح ما يكون من التقليد وأفحشه، كالذي يفعل مقلدو
(٨٣٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 831 832 833 834 835 836 837 838 839 840 841 ... » »»
الفهرست