الاحكام - ابن حزم - ج ٦ - الصفحة ٨٣٧
مالك وأبي حنيفة والشافعي، فإنهم إنما يأخذون من الحجاج ما وافق مذهبهم وإن كان خبرا موضوعا أو شغبا فاسدا، ويتركون ما خالفه، وإن كان نص قرآن أو خبرا مسندا من نقل الثقات.
والعجب أنهم ينسون التقليد، ويقولون: إن المقلد عاص لله، ويقولون:
لا يجوز أن يؤخذ من أحد ما قامت عليه حجة، ويقولون: ليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك، ثم إنهم مع هذا لا يفارقون قول صاحبهم بوجه من الوجوه.
وأما أهل بلادنا فليسوا ممن يتغنى بطلب دليل على مسائلهم وطالبه منهم، في الندرة، إنما يطلبه كما ذكرنا آنفا، فيعرضون كلام الله تعالى، وكلام الرسول عليه السلام على قول صاحبهم، وهو مخلوق مذنب يخطئ ويصيب، فإن وافق قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم قول صاحبهم أخذوا به، وإن خالفاه تركوا قول الله جانبا وقوله صلى الله عليه وسلم ظهريا، وثبتوا على قول صاحبهم، وما نعلم في المعاصي ولا في الكبائر، بعد الشرك المجرد، أعظم من هذه، وأنه لأشد من القتل والزنى.
لان فيما ذكرنا الاستخفاف بالله عز وجل، وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالدين، ولأن من ذكرنا قد جاءته موعظة من ربه فلم ينته، وعاد إلى ما نهي عنه، وعرف أنه باطل، فتدين به واستحله وعلمه الناس، وأما القاتل والزاني فعالمان أن فعلهما خطأ، وأنهما مذنبان، فهما أحسن حالا ممن ذكرنا، وقد قال تعالى: * (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار فيها خالدون) *.
هذا وهم يقرون أن الفقهاء الذين قلدوا مبطلون للتقليد، وأنهم قد نهوا أصحابهم عن تقليدهم، وكان أشدهم في ذلك الشافعي، فإنه رحمه الله بلغ من التأكيد في اتباع صحاح الآثار، والاخذ بما أوجبته الحجة، حيث لم يبلغ غيره، وتبرأ من أن يقلد جملة، وأعلن بذلك نفعه الله به وأعظم أجره، فلقد كان سببا إلى خير كثير، فمن أسوأ حالا ممن يعتقد أن التقليد ضلال، وأن التقليد هو اعتقاد القول قبل اعتقاد دليله، ثم هم لا يفارقون في شئ من دينهم؟ وهذا مع ما فيه من المخالفة لله عز وجل ففيه من نقص العقل والتمييز عظيم نعوذ بالله من الخذلان
(٨٣٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 832 833 834 835 836 837 838 839 840 841 842 ... » »»
الفهرست