مستدركات أعيان الشيعة - حسن الأمين - ج ٢ - الصفحة ٣٥
ومصادره، بظن يقرب من اليقين في أن معظم تلك الآراء المتخالفة المتناقضة إنما استمدها الباحثون، في الأكثر، من مصدر واحد، هو حياة أبي العلاء في عهد كهولته الأخير وشيخوخته، وفي لزومياته وبعض رسائله التي أنشأها آنئذ، ولم ينظروا إلا قليلا في حياته عهد الحداثة والشبيبة، وفي ما كان له عهد ذاك من شعر وأدب وسيرة.
ولست أعني طبعا أنهم لم يتحدثوا عن حياته في طوري الحداثة والشباب، ولم يفصلوا الحديث فيهما تفصيلا كافيا، فان أكثرهم صنع ذلك، ونخص الدكتور طه حسين بالذكر، لأنه بذل جهدا رائعا في استقصاء حياة أبي العلاء من فجرها إلى مغربها، وفي تحقيق أخباره كلها على منهج علمي واضح بكتابه تجديد ذكرى أبي العلاء. ولكن الأمر الذي أعنيه هو أن حياة المعري وشعره في أيام حداثته وشبابه وقسم من كهولته الأولى، لم يكونا مرجعا للباحثين في دراسته وفي تعرف شخصيته من منابعها وأصولها. ولذلك جاءت آراؤهم عنه في الغالب متناقضة، لأنها منتزعة من ظواهر سيرته وشعره أيام هو يلتزم سيرة متكلفة، ويقسر نفسه وفنه على أشياء قد لا تكون في الأصل من مكونات شخصيته وفنه.
ومن الإنصاف للحق أن نذكر الأستاد مارون عبود في أول من يمكن استثناؤهم في هذا المقام. فقد نظر في كتابه زوبعة الدهور إلى أبي العلاء نظرة شاملة بصيرة، فأقام فارقا واضحا بين المعري الإنسان في شبابه والمعري المفكر المتمذهب في أيام عزلته وشيخوخته. لقد تنبه مارون عبود إلى مرد الخطأ الذي وقع فيه معظم الذين درسوا أبا العلاء من المحدثين، إذ أسبغوا على حياته كلها ثوب زهده وتعففه وانقباضه عن الناس ومقته إياهم وتغلفه بالأحاجي والأسرار دونهم، كما يظهر في اللزوميات، وأغفلوا أن هذا ثوب أبي العلاء في عهد اللزوميات، لا ثوبه في عهد سقط الزند.
وبهذا الصدد يقول أديبنا الناقد الباحث مارون عبود: فقد توهم الناس، حتى الخواص من الأدباء هدانا الله وإياهم أن أبا العلاء خلق منزها عن الشهوات، بريئا مما يسميه غيرنا الضعف البشري، لا ينقصه شئ من الكمال في نظرهم، حتى كادوا يجعلونه بمعزل من الغرائز، كأنه غير مركب من لحم ودم. إن أبا العلاء. أيها، الفضلاء، وهذا لا يضير عصمته التي تزعمونها له قد تغزل كالشعراء لأنه أحب مثلهم الحب لا يضر يا سادة وأحس بما أحس به كل مركب من نفس وجسد وله دماع وقلب (1).
حين لم يحصر مارون عبود نظره في نطاق اللزوميات وسائر ما أنشأه أبو العلاء في محبسيه، وجد سقط الزند، ثم وجد في أشعار هذا الديوان وأغراضه شاعرا إنسانا يحيا كالشعراء، وكالناس في زمانه، ورأى أبا العلاء لا يقول عبثا، أي لا يصدر عن غير قلب يخفق بالحب، حين يقول:
أيا دارها بالخيف أن مزارها * قريب، ولكن دون ذلك أهوال أو حين يقول:
أيا جارة البيت الممنع جاره * غدوت ومن لي عندكم بمقيل لغيري زكاة من جمال فان تكن * زكاة جمال فاذكري ابن سبيل ورآه، كذلك، يمدح كالشعراء، ويهنئ بالزفاف وغيره مثلهم، ويغلو ويبالغ حتى لا يقصر عن صاحبه المتنبي في الغلو والمبالغة، ويجني غلة الشعر ويذوق بواكير محصوله كما يفعل غيره من شعراء ذاك الزمان، ويرثي كما يرثون، ويهجو مثلهم ولكن دون هجر، ويفتخر ويدعي مثل الشعراء بل أكثر منهم، إذن فلنثق جيدا أن المعري إنسان مثلنا، أكل وشرب وتلذذ مثل الناس، وهو لم يكذب حين قال:
تنسكت بعد الأربعين ضرورة * ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ فكيف ترجي أن تثاب، وإنما * يرى الناس فضل النسك والمرء شارخ (2) وإذا كان مارون عبود وقف من أمر أبي العلاء الإنسان الذي يحيا في سقط الزند عند هذه اللمحات، ولم يجاوزها إلى تفصيل كامل يخرج منه بالحلقة المفقودة التي تصل المعري هذا بالمعري المفكر المتمذهب الزميت بعد أن انطفأت نار شبيبته... فان هذا لا يقلل قطعا من شان السابقة التي بدأها صاحب زوبعة الدهور باهتدائه إلى شاعر سقط الزند، دون أن يخلطه بناظم اللزوميات...
روى الثعالبي في يتيمة الدهر عن المصيصي الشاعر أنه قال: رأيت بمعرة النعمان عجبا من العجب، رأيت أعمى شاعرا ظريفا يلعب بالشطرنج والنرد، ويدخل في كل فن من الجد والهزل، يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر.
وأخذ بهذه الرواية كل من أرخ لأبي العلاء بعد ذلك، ولم نجد من يكذبها أو ينكرها عليه، غير أن الدكتور طه حسين شك (3) في أن أبا العلاء كان قادرا أن يلعب الشطرنج والنرد، وتأول قوله أنه يحمد الله على العمى كما يحمده غيره على البصر، تأولا ليس يخلو من تلك النظرة التي ينظر بها الباحثون إلى أبي العلاء من خلال حياته في اللزوميات...
ونحن نأخذ بهذه الرواية من حيث دلالتها العامة، دون تفاصيلها بالدقة. فسواء كان أبو العلاء يلعب الشطرنج والنرد حقا أم لم يكن، وسواء أكان يعني حقيقة ما يقول من أنه يحمد الله على العمى كما يحمده غيره على البصر، أم كان يعني من هذا القول ظاهرة وفي نفسه شئ آخر، إما سخرا بالمبصرين، وإما اعتدادا بالنفس وفخرا فان هذه الرواية بجملتها، تدل على كل حال أن شاعر المعرة الفتى كان ظريفا مرحا يجالس الظرفاء، ويشارك أهل الهزل هزلهم وأهل الجد جدهم، ويتصل بمواطنيه في المعرة اتصال مواطن إنسان، فهو يحيا حياتهم اليومية في غير تحفظ، ويخالطهم في لهوهم دون تزمت، ويحس معهم إحساس المسرة والمرح، دون أن تمنعه العاهة شيئا من ذلك، بل تزيده العاهة إقبالا على مثل ما يقبل عليه أترابه المبصرون توكيدا لوجوده وتفوقه.
أقول: نأخذ بالرواية من حيث دلالتها هذه، مع علمنا أنه ليس في أخبار أبي العلاء ما ينفي شيئا من نصها، فهي من الوجهة التاريخية المحض ثابتة غير منقوضة، فإذا أضفنا إلى ذلك أن أشعار سقط الزند ذاتها تنبئ بأن الرواية ليست غريبة عن الواقع الذي كان يحياه أبو العلاء في عهده الأول

(1) زوبعة الدهور - ص 14.
(2) الشارخ: من يكون في شرح العمر، أي الصبا.
(3) تجديد ذكرى أبي العلاء - ص 137.
(٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 المقدمة 5
2 آمنة القزوينية - إبراهيم القطيفي - البحراني - الخطي - أحمد الدندن - الصحاف 7
3 أحمد مسكويه 8
4 أحمد آل عصفور - البحراني 19
5 أحمد بن حاجي - الدرازي - الدمستاني - المتنبي 20
6 أحمد القطيفي 32
7 أحمد الغريفي 33
8 أحمد عصفور - الزاهد - الخطي - البحراني 41
9 أحمد البحراني - الزنجي - البلادي - العقيري 42
10 أحمد القطيفي - آل عصفور - الشايب - المصري 43
11 أحمد الصاحب 45
12 أحمد البحراني - الأحوص - إدريس الثاني 46
13 إدريس الأول 49
14 إسماعيل الصفوي 50
15 أم كلثوم القزوينية - أمانت 68
16 أويس الأول - أيوب البحراني - بابر 69
17 باقر الدمستاني - بيرم خان خانان 70
18 جارية بن قدامة السعدي 71
19 جعفر القطاع - البحراني 77
20 جواد علي - جويرية - حبيب بن قرين 78
21 حرز العسكري - حسن عصفور - القطيفي 79
22 الحسن الوزير المهلبي 81
23 حسن الدمستاني 92
24 الحسين النعالي - معتوق - آل عصفور 93
25 حسن الحيدري - البلادي - الحسين ابن خالويه 95
26 حسين الغريفي - البحراني - الماحوزي 98
27 الحسين الطغرائي 99
28 حسين الفوعي - القزويني 104
29 حسين نور الدين - الحسين بن سينا 105
30 حمد البيك 120
31 خلف آل عصفور - الخليل بن أحمد الفراهيدي 134
32 داود البحراني 138
33 درويش الغريفي - رقية الحائرية - رويبة - السائب - الأشعري - سعد صالح 139
34 سعيد حيدر 140
35 سليمان الأصبعي 151
36 شبيب بن عامر - صالح الكرزكاني - صخير 152
37 صدر الدين الصدر - طاشتكين 153
38 عبد الإمام - عبد الجبار - عبد الرؤوف - عبد الرضا - عبد الحسين القمي - ابن رقية 154
39 عبد الرحمان الهمداني - ابن عبيد 155
40 عبد الرحمان النعماني - عبد السلام بن رغبات ديك الجن 156
41 عبد الله الحلبي - عبد علي عصفور 158
42 عبد علي القطيفي - عبد العلي البيرجندي - عبد الغفار نجم الدولة 159
43 عبد الكريم الممتن 160
44 عبد الله المقابي - الحجري - البحراني - الكناني - الأزدي - ابن وال - الأزدي 162
45 عبد الله النهدي - الأحمر - عبد المحسن اللويمي 163
46 عبد النبي الدرازي - عبيد الله بن الحر الجعفي 164
47 عبيدة - عدنان الغريفي 172
48 علي الأحسائي - البحراني - المقابي - جعفر - الدمستاني 173
49 علي الصالحي - ابن الشرقية 174
50 علي بن المؤيد 176
51 علي باليل 183
52 سيف الدولة الحمداني - ابن بابويه 185
53 علي الغريفي 196
54 علي نقي الحيدري - ابن أسباط - الصحاف 201
55 علي الحماني 202
56 علي بن الفرات 211
57 علي التهامي 213
58 عمر بن العديم 218
59 عيسى عصفور - قيس بن عمرو النجاشي 220
60 كريب - مال الله الخطي - ماه شرف 222
61 محسن عصفور - محمد الأسدي 223
62 محمد الكناني 226
63 محمد بن أحمد الفارابي 227
64 محمد البيروني 232
65 محمد الدمستاني - السبعي - الشويكي - الخطي - السبزواري 245
66 محمد النيسابوري - الشريف الرضي محمد بن الحسين 246
67 محمد الكرزكاني - المقابي 281
68 محمد بن أبي جمهور الأحسائي 282
69 محمد البحراني - البرغاني 286
70 محمد تقي الفشندي - آل عصفور - الحجري - الهاشمي 287
71 محمد جواد دبوق - المقابي - البحراني - آل عصفور 297
72 محمد عباس الجزائري 298
73 محمد علي البرغاني 299
74 محمد صالح البرغاني 300
75 محمد قاسم الحسيني - البغلي 305
76 محمد علي الأصفهاني - محمد كاظم التنكابني - محمد محسن الكاشاني 308
77 محمد محسن العاملي - محمد مهدي البصير - محمد النمر 309
78 محمود بن الحسين كشاجم 312
79 مرتضى العلوي - مغامس الحجري - مصطفى جواد 322
80 معتوق الأحسائي 327
81 معد الموسوي - معقل بن قيس الرياحي 328
82 مهدي الحكيم 330
83 مهدي بحر العلوم 330
84 مهدي المازندراني - الحيدري 333
85 منصور كمونة 336
86 مهدي الكلكاوي - محمد طاهر الحيدري - محمد بن مسلم الزهري - خاتون - معمر البغدادي - محسن الجواهري 337
87 ناصر الجارودي - حسين - نصر النحوي - المدائني - القاضي النعمان 338
88 نعمة الله الجزائري - نعيم بن هبيرة 342
89 نوح آل عصفور - نور الدين القطيفي - هبة الله ابن الشجري 343
90 هشام الجواليقي - يحيى الفراء 344
91 يعقوب الكندي 349
92 يوسف بن قزغلي 355
93 ملحق المستدركات - صلاح الدين الأيوبي 356
94 الخراسانية والمتشيعة 361
95 العرب والمأمون ثم البويهيون 364
96 سعد صالح 367
97 صلاح الدين وخلفاؤه - إسماعيل الصفوي 368
98 ابن جبير في جبل عامل 370