مستدركات أعيان الشيعة - حسن الأمين - ج ٢ - الصفحة ٣١
من اللحظات الهاربة من الإطار الذي وضعه فيه التاريخ.
وإذا رافقنا المتنبي إلى شعب بوان وجدنا لحظة أخرى من حياة الشاعر، يرتفع بها عن المقاييس المألوفة.
وهذا الشعب بقعة من البقاع الفاتنة التي مر بها المتنبي في طريق فارس، وهو آية من آيات الجمال الطبيعي، فلما وقف عليه أخذ أخذة المسحور، وذاب في روعة الجمال، ولا يكاد يفيق من غيبوبته حتى تسيل روحه في أبيات تدل على قوة الجمال، وقوة تأثيره:
يقول بشعب بوان حصاني: * أعن هذا يسار إلى الطعان؟
أبوكم آدم سن المعاصي * وعلمكم مفارقة الجنان فان أداة الاستفهام هنا تنطوي على أدق معاني الإنكار، ويصب فيها الشاعر أعمق ما في روحه من الحسرات على مأساة الإنسان، ويستغرب حتى حصانه العاري من الفكر، ومن الشعور بالجمال مغادرة هذه الجنة الفاتنة!.
وإلى أين!. إلى الطعن الذي تسيل فيه الدماء، وتتمزق تحته الأشلاء، وتذهب فيه الأرواح إلى واد عميق عميق!.
إن الشاعر يرتفع في هذه اللحظة عن جميع المقاييس المألوفة في عصره، ولا ينسى تمجيده للحرب، وتروية رمحه بالدماء فحسب، وإنما ينكر ما كان يمجده، ولا يكاد يذكر قوله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها * وبالناس روى رمحه غير راحم فما السر في هذا التباعد العظيم في المواقف؟ إن البعض يراه من إزدواج الشخصية والبعض الآخر يرى التناقض شيئا اعتياديا في حياة الأدباء.
يقول ليتون ستراتشي عن فولتير: كان أعظم أناني بين الناس، وكان أبعد الناس عن الأغراض الذاتية، كان طماعا بخيلا، وكان كريما بافراط، كان طائشا خبيثا غدارا، ومع ذلك كان صديقا، متينا، ومنعما صادقا ووقورا بعمق، وملهما بحماس نبيل (1).
فهل ينطبق على المتنبي ما ينطبق على فولتير؟ وهل يكون الأديب مجمع متناقضات؟ إذا أخذنا برأي أرسطو في التناقض، واعتبرنا وحدة الزمان والمكان والشخصية وغيرها من الشروط وجدنا الأديب كغيره واقعا تحت المؤثرات المختلفة، وهذه المؤثرات هي التي تملي عليه خواطره في الحياة إذا لم يكن وراءها خط فلسفي متين يراقبها، ويراقب تذبذبها بين الأنانية وإنكار الذات. والمتنبي من هؤلاء الناس الذين تؤثر بهم الظروف التأثير الذي رأيناه، فحينا يرتفع إلى القمة في إنسانيته، ويتمرد على مقاييس العصر، وحينا يصبح ريشة في التيار المندفع في وادي الزمان... زمانه الخاص.
حصان المتنبي...
وقال محمد شرارة:
يقول بشعب بوان حصاني * أعن هذا يسار إلى الطعان؟!
أبوكم آدم سن المعاصي * وعلمكم مفارقة الجنان!
هذان البيتان من قصيدة طويلة نظمها الشاعر بعد مروره ب‍ شعب بوان، وهو مرج تتعالى فيه الأشجار، وتغني البلابل، وتنتشر الأعشاب، ويختلط فيه تغريد البلبل بزقزقة العصفور، وأحاديث الناس بحفيف الأوراق، وتتصاعد فيه لغات لو سمعها النبي * سليمان لاحتاج إلى مترجم:
ملاعب جنة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان وقد وصف الشاعر هذا الشعب وصفا دقيقا، وصوره تصويرا فنيا يكاد يرى القارئ من خلاله الظلال والأفياء، والأشجار، والمروج، وما تنطوي عليه من روعة وفتنة، ويرى الطبيعة وقد لبست ثوبها الساحر الأخضر فتنة تسبي العيون، وتنعش القلوب.
في هذين البيتين إحساس وتصوير، أما التصوير وما فيه من إبداع ودقة وصدق فلا يهمنا كثيرا في هذه الكلمة، وإنما الذي يهمنا، ويهم أغلبية القراء على ما أظن هو الاحساس، إحساس الشاعر، بالجمال، والأثر الذي انبثق من هذا الاحساس.
وإحساس الشاعر في هذه اللحظة الفاتنة كما يراه القارئ هو إحساس إنساني عميق تتفتح به الحياة كما تتفتح الزهرة على هبوب النسيم، وأطياف الأشعة، وترى الوجود وما فيه من جمال أخاذ، جنة لا تختلف عن الجنة التي خرج منها آدم جنة حلوة فاتنة تغري الأحياء بالحياة، وتجذبهم إليها، وتحبب إليهم العيش في ظلالها وأفيائها الناعمة اللذيذة. ولا يقتصر إحساس الشاعر في هذه اللحظة على نفسه، وإنما يطغى عليه فيفيض ويفيض كما تفيض الكاس عند امتلائها. وإذا الشاعر يخلع هذا الاحساس الرائع على ما حوله على حصانه. وإذا الحصان يرى الحياة وقد ارتدت هذا الثوب المغري الفاتن شيئا لذيذا تستحق العناية، وتستحق الحرص... ولا يقف الحصان عند هذا الحد بل ينتقل إلى التفكير بما يهدد هذه الحياة، وبمن يهددها، وإذا بتفكيره وهو في قمة الاحساس يوصله إلى مصدر هذا التهديد الضاري:
إنه الحرب - الحرب التي تأخذ الناس والخيل، وتختطفهم من هذه الجنة الحلوة السائغة إلى الطعن والضرب والقتل، وعندئذ يصرخ الحصان صرخة الجريح، ويستفهم استفهاما إنكاريا موجعا: أعن هذا يسار إلى الطعان؟!. ولا يلبث أن ينتقل بعد ذلك الاستفهام الموجع وقد أخذه الغضب إلى آدم الذي علم أولاده مفارقة الجنة!.
في هذه النهاية يلقي حصان الشاعر تبعة الحروب وإثارتها على الإنسان الأول الذي لم تكفه معصيته الأولى التي سببت طرده من الجنة حتى أتبعها بغيرها من المعاصي وأكبر معاصيه بعد الخروج من الجنة هي الحروب والشاعر يجعل الحيوان في هذا الاستنتاج أرقى إحساسا وأصح تفكيرا من الإنسان!.
لم يحالف التوفيق شاعرنا في هذه النتيجة التي انتهى إليها. إنه على عظمته ضحية في هذه الفكرة المغلوطة للأساس الفلسفي الذي يرى بان الحرب ظاهرة طبيعية من ظواهر الحياة الإنسانية. شانها في ذلك شان العواصف والأوبئة في الطبيعة. وإذا كانت الحرب ظاهرة إنسانية لازمة كان الإنسان أحط إحساسا، وأدنى تفكيرا من الحيوان من حصان الشاعر مثلا.!.
لم يكن شاعرنا العظيم وحده ضحية هذا الاحساس الفلسفي المتداعي، بل تعداه إلى كثير من الشعراء وكما سمعت منه: أبوكم آدم سن المعاصي فقد سمعت من غيره:

(1) 290. p, by Drink water, The Out line of Literture
(٣١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 المقدمة 5
2 آمنة القزوينية - إبراهيم القطيفي - البحراني - الخطي - أحمد الدندن - الصحاف 7
3 أحمد مسكويه 8
4 أحمد آل عصفور - البحراني 19
5 أحمد بن حاجي - الدرازي - الدمستاني - المتنبي 20
6 أحمد القطيفي 32
7 أحمد الغريفي 33
8 أحمد عصفور - الزاهد - الخطي - البحراني 41
9 أحمد البحراني - الزنجي - البلادي - العقيري 42
10 أحمد القطيفي - آل عصفور - الشايب - المصري 43
11 أحمد الصاحب 45
12 أحمد البحراني - الأحوص - إدريس الثاني 46
13 إدريس الأول 49
14 إسماعيل الصفوي 50
15 أم كلثوم القزوينية - أمانت 68
16 أويس الأول - أيوب البحراني - بابر 69
17 باقر الدمستاني - بيرم خان خانان 70
18 جارية بن قدامة السعدي 71
19 جعفر القطاع - البحراني 77
20 جواد علي - جويرية - حبيب بن قرين 78
21 حرز العسكري - حسن عصفور - القطيفي 79
22 الحسن الوزير المهلبي 81
23 حسن الدمستاني 92
24 الحسين النعالي - معتوق - آل عصفور 93
25 حسن الحيدري - البلادي - الحسين ابن خالويه 95
26 حسين الغريفي - البحراني - الماحوزي 98
27 الحسين الطغرائي 99
28 حسين الفوعي - القزويني 104
29 حسين نور الدين - الحسين بن سينا 105
30 حمد البيك 120
31 خلف آل عصفور - الخليل بن أحمد الفراهيدي 134
32 داود البحراني 138
33 درويش الغريفي - رقية الحائرية - رويبة - السائب - الأشعري - سعد صالح 139
34 سعيد حيدر 140
35 سليمان الأصبعي 151
36 شبيب بن عامر - صالح الكرزكاني - صخير 152
37 صدر الدين الصدر - طاشتكين 153
38 عبد الإمام - عبد الجبار - عبد الرؤوف - عبد الرضا - عبد الحسين القمي - ابن رقية 154
39 عبد الرحمان الهمداني - ابن عبيد 155
40 عبد الرحمان النعماني - عبد السلام بن رغبات ديك الجن 156
41 عبد الله الحلبي - عبد علي عصفور 158
42 عبد علي القطيفي - عبد العلي البيرجندي - عبد الغفار نجم الدولة 159
43 عبد الكريم الممتن 160
44 عبد الله المقابي - الحجري - البحراني - الكناني - الأزدي - ابن وال - الأزدي 162
45 عبد الله النهدي - الأحمر - عبد المحسن اللويمي 163
46 عبد النبي الدرازي - عبيد الله بن الحر الجعفي 164
47 عبيدة - عدنان الغريفي 172
48 علي الأحسائي - البحراني - المقابي - جعفر - الدمستاني 173
49 علي الصالحي - ابن الشرقية 174
50 علي بن المؤيد 176
51 علي باليل 183
52 سيف الدولة الحمداني - ابن بابويه 185
53 علي الغريفي 196
54 علي نقي الحيدري - ابن أسباط - الصحاف 201
55 علي الحماني 202
56 علي بن الفرات 211
57 علي التهامي 213
58 عمر بن العديم 218
59 عيسى عصفور - قيس بن عمرو النجاشي 220
60 كريب - مال الله الخطي - ماه شرف 222
61 محسن عصفور - محمد الأسدي 223
62 محمد الكناني 226
63 محمد بن أحمد الفارابي 227
64 محمد البيروني 232
65 محمد الدمستاني - السبعي - الشويكي - الخطي - السبزواري 245
66 محمد النيسابوري - الشريف الرضي محمد بن الحسين 246
67 محمد الكرزكاني - المقابي 281
68 محمد بن أبي جمهور الأحسائي 282
69 محمد البحراني - البرغاني 286
70 محمد تقي الفشندي - آل عصفور - الحجري - الهاشمي 287
71 محمد جواد دبوق - المقابي - البحراني - آل عصفور 297
72 محمد عباس الجزائري 298
73 محمد علي البرغاني 299
74 محمد صالح البرغاني 300
75 محمد قاسم الحسيني - البغلي 305
76 محمد علي الأصفهاني - محمد كاظم التنكابني - محمد محسن الكاشاني 308
77 محمد محسن العاملي - محمد مهدي البصير - محمد النمر 309
78 محمود بن الحسين كشاجم 312
79 مرتضى العلوي - مغامس الحجري - مصطفى جواد 322
80 معتوق الأحسائي 327
81 معد الموسوي - معقل بن قيس الرياحي 328
82 مهدي الحكيم 330
83 مهدي بحر العلوم 330
84 مهدي المازندراني - الحيدري 333
85 منصور كمونة 336
86 مهدي الكلكاوي - محمد طاهر الحيدري - محمد بن مسلم الزهري - خاتون - معمر البغدادي - محسن الجواهري 337
87 ناصر الجارودي - حسين - نصر النحوي - المدائني - القاضي النعمان 338
88 نعمة الله الجزائري - نعيم بن هبيرة 342
89 نوح آل عصفور - نور الدين القطيفي - هبة الله ابن الشجري 343
90 هشام الجواليقي - يحيى الفراء 344
91 يعقوب الكندي 349
92 يوسف بن قزغلي 355
93 ملحق المستدركات - صلاح الدين الأيوبي 356
94 الخراسانية والمتشيعة 361
95 العرب والمأمون ثم البويهيون 364
96 سعد صالح 367
97 صلاح الدين وخلفاؤه - إسماعيل الصفوي 368
98 ابن جبير في جبل عامل 370