الاحكام - ابن حزم - ج ٦ - الصفحة ٨٧٥
ومن لا يعلم عنده، ومن غيره أعلم منه، وقد شهدنا نحن قوما فساقا حملوا اسم التقدم في بلدنا، وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة، ولا يجوز قبول شهادتهم.
وقد رأيت أنا بعضهم، وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا، وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض لحافا، ويتخذ في منزله الصور ذوات الأرواح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه، ويفتي بالهوى للصديق فتيا، وعلى العدو فتيا ضدها، ولا يستحي من اختلاف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى وانحرافه عليه، شاهدنا نحن هذا عيانا، وعليه جمهور أهل البلد، إلى قبائح مستفيضة، لا نستجيز ذكرها لأننا لم نشاهدها.
هذا مع ما فشا في الناس من فتيا من يسمونه في الفقه: بالتقليد والقياس والاستحسان، وإنما أوقع العامة في سؤالهم حسن الظن بهم أنهم لا يقدمون على الفتيا بغير علم، ولا بما لا يصح عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو علمت العامة أنهم ليس عندهم في أكثر ما يفتونهم به علم عن الله عز وجل، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم يوقعونهم في مخالفة القرآن والسنة، ما سألوهم ولا استفتوهم، بل لعلهم كانوا يقدمون عليهم إقداما يتلفهم.
فمن استفتى فقيهين فأفتاه كل واحد منهما بفتيا غير الذي أفتى به الآخر، وقال له أحدهما: كذا قال الله عز وجل، وقال الآخر: كذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاللازم له أن يأخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله عز وجل: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) *، ولأنه صلى الله عليه وسلم لا يخالف ربه عز وجل، لكنه يبين مراده تعالى، ولأنه لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نعلم أن القرآن كلام الله تعالى، ولا درينا دين الله تعالى، ولا عرفنا مراد ربنا تعالى، ولا أوامره ولا نواهيه، ولا خلاف بين أحد المسلمين في وجوب المصير إلى قوله صلى الله عليه وسلم وترك ما أمرنا أن نترك العمل به من القرآن.
فمن ذلك أنه لا خلاف بين أحد من المسلمين - حاشا الأزارقة - في وجوب الرجم على الزاني المحصن، وليس ذلك في القرآن، ولا في عدد الصلوات وكيفية أخذ الزكوات، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها - إلا من شذ عن الحق في ذلك، وليس في القرآن شئ من ذلك أصلا. وهكذا سائر الأحكام والعبادات كلها، وبالله
(٨٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 870 871 872 873 874 875 876 877 878 879 880 ... » »»
الفهرست