الاحكام - ابن حزم - ج ٦ - الصفحة ٨٧٩
والحقيقة التي لا شك فيها هي أن مرادهم بالدعاء إلى أهل المدينة، والتشييع بوجوب طاعتهم، إنما هو دعاء إلى قول مالك وحده، لا يبالون بأحد سواه من أهل المدينة، وأعجب من هذا أنهم فيما يدعون فيه إجماع أهل المدينة من المسائل، ليس عندهم في صحة ذلك إلا نقل مالك وحده ومن المحال أن يثبت الاجماع بنقل واحد لا برهان بيده وكل ما جوزوه على سائر الثقات من رواة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمن دونه إلى قيام الساعة، فهو جائز على مالك ولا فرق، فظهر بطلان قولهم لكل ذي حس سليم.
وأيضا فإن مالك بن أنس رحمه الله لم يد إجماع أهل المدينة في موطئه إلا في نحو ثمان وأربعين مسألة فقط، مع أن الخلاف موجود من أهل المدينة في أكثر تلك المسائل بأعيانها، وأما سائرها فلا خلاف فيها بين أحد لا مدني ولا غيره، ولم يدع إجماعا في سائر مسائله فاستجاز أهل الجهل على الحقيقة من اتباعه الكذب المجرد والجهل الفاضح، ونعوذ بالله من الخذلان، في إطلاق الدعوى على جميع أقوالهم أو أكثرها، أنها إجماع أهل المدينة.
وحتى لو صح لهم هذا القول الفاسد، لوجب ألا تقبل رواية القاسم وأشهب وابن عبد الحكم وسائر المالكيين قديما وحديثا، لأنهم ليسوا مدنيين.
فإن قال قائل: إنهم أخذوا عن أهل المدينة. قيل: وكذلك أهل البصرة والكوفة والشام ومصر ومكة واليمن، أخذوا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أفضل وأعلم من الذين أخذ عنهم المذكورون وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي به هدى الله تعالى من شاء من أهل المدينة وغيرهم والقرآن واحد مشهور في غير المدينة كما هو بالمدينة وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم معروفة منقولة في غير المدينة كما هي بالمدينة، والدين واحد ويهب الله من يشاء، من أهل المدينة وغير أهل المدينة، ما شاء من الحظ في دينه والفهم في كتابه وأهل المدينة وغيرهم سواء، ولا فرق بينهم وما عدا هذا القول فإفك وزور وكذب وبهتان وبالله التوفيق.
وقد ذكرنا أن مالكا وأبا حنيفة والشافعي لم يقلدوا، ولا أجازوا لاحد أن يقلدهم، ولا أن يقلد غيرهم.
(٨٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 874 875 876 877 878 879 880 881 882 883 884 ... » »»
الفهرست