الاحكام - ابن حزم - ج ٦ - الصفحة ٨٧٨
وتجري مجرى الاسرار، ومثل هذا كانت مقالة عمر، التي حضه عبد الرحمن على تأخيرها إلى أن يخلو بوجوه الناس، ولم تكن من الشرائع الواجب معرفتها، من الفرض والحرام والمباح، ونحن إنما نتكلم مع خصومنا في الشرائع التي تلزم أهل صين الصين والخالدات ومن في حوزارين وأقاصي بلاد الزنج، وأقاصي بلاد الصقالبة. كما يلزم الصحابة وأهل المدينة لزوما مستويا لا تفاضل فيه ولم ننازعهم في إدارة رأي، وفي تحذير من طالب خلافة. فلو تركوا التمويه لكان أولى بهم ولو كانت تلك المقالة من واجبات الشرائع ما أخرها عمر ولا أمره ابن عوف بتأخيرها.
والعجب أن القائلين بهذا قد خالفوا إجماع أهل المدينة حقا فمن ذلك سجودهم مع عمر في * (إذا السماء انشقت) * يوم جمعة، فقالوا: ليس عليه العمل فتركوا إجماع أهل المدينة.
ومن ذلك اشتراكهم في الهدي يوم الحديبية. فقالوا: ليس عليه العمل فتركوا إجماع أهل المدينة الصحيح، وادعوه حيث لا يصح، وهكذا يكون عكس الحقائق والأمور في الديانة لا تؤخذ إلا من نص منقول، ولا نص على وجوب اتباع أهل المدينة دون غيرهم، فإذا كان ذلك دعوى بلا برهان فهو افتراء على الله عز وجل أنه أوجب ذلك. وهو تعالى لم يوجبه، وهذا عظيم جدا ونسأل الله التوفيق.
وإذا كان نقل أهل المدينة وغيرهم إنما حكمه أن يراعى الفاسق فيجتنب نقله، والعدل فيقبل نقله، ففي المدينة عدول وفساق ومنافقون، وغيرهم شر خلق الله تعالى وفي الدرك الأسفل من النار، وقال تعالى: * (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين) * وقال تعالى: * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) *. وفي سائر البلاد أيضا عدول وفساق ومنافقون ولا فرق.
وكيف يدعي هؤلاء المغفلون تقليد أهل المدينة وهم يخالفون عمر بن الخطاب في نيف وثلاثين قضية من موطأ مالك خاصة، وخالفوا أبا بكر، وعائشة وابن عمر وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري وغيرهم من فقهاء المدينة في كثير من أقوالهم جدا، فإن كان تقليد أهل المدينة واجبا فمالك مخطئ في خلافه لهؤلاء فيجب عليهم أن يتركوه إذا خالف من أهل المدينة.
(٨٧٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 873 874 875 876 877 878 879 880 881 882 883 ... » »»
الفهرست