الاحكام - ابن حزم - ج ٦ - الصفحة ٨٦٩
ولا قصد الباطل وهو يعلمه باطلا فيأثم، فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة واليقين فيها والحق عند الله بلا شك، وما عدا هذا فحيرة ودعوى بلا دليل.
فإن سأل العامي فقيهين فصاعدا فاختلفوا عليه، فقد قال قوم: يأخذ بالأخف، وقال قوم: يأخذ بالأثقل، وقال قوم: لا يلزمه منها، وقال قوم: هو مخير يأخذ ما يشاء من ذلك.
قال أبو محمد: أما من قال: هو مخير، فقد أمره باتباع الهوى، وذلك حرام وأخطأ بلا شك، وجعل الدين مردودا إلى اختيار الناس يعمل بما شاء، وأجاز فيه الاختلاف، والله تعالى يقول: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * وقال تعالى: * (ولا تنازعوا فتفشلوا) * وقال تعالى: * (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) * فالاختلاف ليس من أمر الله تعالى الذي أباحه وأمر به.
وقد علمنا أن حكم الله تعالى في الدين حكم واحد، وأن سائر ذلك خطأ وباطل، فقد خيره هذا القائل في أخذ الحق أو تركه، وأباح له خلاف حكم الله تعالى، وهذا الباطل المتيقن بلا شك، فسقط هذا القول بالبرهان الضروري.
وأما من قال: يأخذ بالأثقل فلا دليل على صحة قوله أيضا، وكذلك قول من قال: يأخذ بالأخف، وكل قول بلا دليل فهي دعوى ساقطة، فإن احتج بقول الله عز وجل: * (يريد الله بكم اليسر) * فقد علمنا أن كل ما ألزم الله تعالى فهو يسر، وبقوله تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) *.
قال أبو محمد: والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق: إنه إن أفتاه فقيهان فصاعدا بأمور مختلفة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو غير فاسق بتركه قبول شئ منها، لأنه إنما يلزمه ما ألزمه النص في تلك المسألة، وهو لم يدره بعده، فهو غير آثم بتركه ما وجب مما لم يعلمه، لكنه يتركهم ويسأل غيرهم، ويطلب الحق.
مثال ذلك: رجل سأل: كيف أحج؟ فقال له فقيه: أفرد، فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي لم يكن له بعد الهجرة غيرها.
وقال له آخرون: اقرن، فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي لم تكن له بعد الهجرة غيرها.
وقال له آخرون: تمتع، فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي
(٨٦٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 864 865 866 867 868 869 870 871 872 873 874 ... » »»
الفهرست