مستدركات أعيان الشيعة - حسن الأمين - ج ٢ - الصفحة ٢٥
أين عن أداء واجبه القومي المقدس، الذي هو في الوقت نفسه واجبهم أيضا...
ونكتفي بهذه الأمثلة، دون استقصاء، للدلالة على أن المتنبي كان مشغول الذهن والعاطفة، وهو يمدح سيف الدولة في هذه المناسبات، بأمر هذا الجهاد القومي المقدس الذي كان أميره الحمداني يحمل نفسه على النهوض باعبائه وحده في الدولة الواسعة ذات الدويلات العديدة.
والتعريض هكذا بخصوم سيف الدولة الداخليين، ليس هو إلا أيسر الجوانب المعبرة عن اهتمام المتنبي بأمر ذاك الجهاد القومي، وهناك جوانب المدح الخالص لسيف الدولة في قصائده الروميات، بل في كل قصائده التي قالها بهذا الأمير المجاهد، وهي تكاد تزيد عن ثمانين قصيدة ظل ينشئها في مدى تسع سنوات متواليات، وهي بلا شك أعظم شعر المتنبي على الاطلاق، بل من أعظم الشعر القومي في أدبنا العربي.
فهذه قصيدته التي مدح بها سيف الدولة بعد انتصاره على الروم في مرعش انتصارا تاريخيا رائعا، سنة اثنين وأربعين وثلاثمائة هجرية، يسرد فيها وقائع عدة معارك، ويسمي أمكنتها وأشخاصها، وهي القصيدة التي مطلعها:
ليالي بعد الظاعنين شكول * طوال، وليل العاشقين طويل هذه القصيدة تكاد تكون لوحة كبيرة متقنة الصنع متكاملة الأجزاء، تصف بلاء الأمير الحمداني في جيوش الروم، وتصف فنون الكر والفر، ولكنها ليست وصفا حقيقيا بقدر ما هي غناء وجداني نحس فيه وهج العاطفة ولهب الحماسة وفرح الانتصار، حتى لكان المتنبي ينشئ في كل بيت من القصيدة معركة، ويحرز في كل معركة نصرا، ويتذوق مع كل نصر فرحة جديدة.
ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي * فتظهر فيه رقة ونحول لقيت بدرب القلة الفجر لقية * شفت كمدي، والليل فيه قتيل ويوما كان الحسن فيه علامة * بعثت بها، والشمس منك رسول وما قبل سيف الدولة اثار عاشق * ولا طلبت عند الظلام ذخول ولكنه يأتي بكل غريبة * تروق، على استغرابها، وتهول رمى الدرب بالجرد الجياد إلى العدا * وما علموا أن السهام خيول شوائل تشوال العقارب بالقنا * لها مرح من تحته وصهيل وما هي إلا خطرة عرضت له * بحران لبتها قنا ونصول ويقول فيها:
وأنا لنلقى الحادثات بأنفس * كثير الرزايا عندهن قليل يهون علينا أن تصاب جسومنا * وتسلم أعراض لنا وعقول إنه هو المتنبي نفسه في المعركة، وهو هنا يتحدث بانفعاله وتجربته واندماجه في القضية التي تدور لأجلها المعركة... هو هنا ليس مادحا للمدح ذاته، وليس مادحا للجائزة ذاتها، وليس مادحا زلفى وتمليقا لصاحبه... هو هنا عربي يهتز كيانه ووجدانه بحركة المعركة، وبقضية المعركة، وبمجد المعركة، ثم بفرح الانتصار في المعركة.
وفي شهر صفر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة هجرية، يدخل على سيف الدولة رسول من قائد الروم يطلب الهدنة، فينبري المتنبي إلى هذه القصيدة التي مطلعها:
دروع لملك الروم هذي الرسائل * يرد بها عن نفسه ويشاغل هي الزرد الضافي عليه ولفظها * عليك ثناء سابغ وفضائل لم يبدأ الشاعر القصيدة، هذه المرة، بالغزل أو النسيب كعادته، فقد أعجله عن ذلك أمر خطير هو أحق أن يشغل به نفسه ويحذر به أميره... إن الأمر عنده ليس مدح سيف الدولة وكفى، وليس طلب المنزلة أو طلب الجائزة وكفى... بل الأمر الأهم من هذا كله أن يعلم أميره مغزى هذه الهدنة التي يرجوها قائد الروم... هذه الهدنة ليست سوى خدعة يريد أن يدفع بها ملك الروم عن نفسه وجيشه إحدى الهزائم يوقعها به هذا الأمير العربي، سيف الدولة.
فالمتنبي، إذن، يدرك قصد الهدنة هذه، وهو إذن يسارع إلى أميره أن يرفض الهدنة، حتى لا يفيد منها العدو كسبا عسكريا على حساب الدولة العربية.
ويصاب العرب بالهزيمة، بعد النصر، في المعركة التي وقعت قرب بحيرة الحدث، سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وكان سبب الهزيمة أن أتباع سيف الدولة بعد أن انتصروا على الروم عدة انتصارات في تلك السنة، أبوا عليه أن يتابع غزوه للروم، وألحوا عليه في طلب العودة إلى ديارهم، فاستجاب لهم، وعادوا بمغانم النصر وبالأسرى، وبينا هم في طريق العودة فوجئوا بالعدو وقد أحاط بهم، وسد عليهم كل طريق فأوقع بهم الهزيمة، وكان المتنبي من شهود أحداث النصر والهزيمة معا، فلما عادوا إلى حلب كانت نفس الشاعر قد امتلأت ألما وحزنا على ما قد أصيب به الجيش العربي في تلك الحوادث، وسرعان ما أحدث الألم والحزن هذه القصيدة التي مطلعها:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع * إن قاتلوا جبنوا، أو حدثوا شجعوا أهل الحفيظة، إلا أن تجربهم * وفي التجارب، بعد الغي ما يزع وما الحياة ونفسي بعد ما علمت * أن الحياة كما لا تشتهي طبع ليس الجمال لوجه صح مارنه * أنف العزيز بقطع العز يجتدع فهذه بداءة القصيدة كما ترى، وقد أنشدها سيف الدولة، فهل يبدأ شاعر قصيدة مدح على هذا النحو وهو يقصد إلى مجرد المدح أو مجرد الجائزة أو مجرد الزلفى إلى أميره؟...
أنت تحس في هده البداءة أن شاعر هذه القصيدة امرؤ محزون بالفعل، حاقد حانق أشد الحقد والحنق على أولئك الذين جبنوا عن متابعة الحرب، فأوقعوا الهزيمة بجيشهم وقومهم وأميرهم... وهو ينطلق من هذا الشعور الصادق ليس واصفا ولا مادحا، بل معبرا عن وجدانه المنفعل المتأذي، بما في

(1) القلة: موضع في بلاد الروم.
(2) حران: بلد كان يعسكر فيها سيف الدولة.
(3) الحفيظة: الحمية والأنفة، يزع، يردع.
(4) بفتح الباء: الدنس.
(5) المارن: اللين من الانف. يجتدع. يجتدع: يقطع.
(٢٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 المقدمة 5
2 آمنة القزوينية - إبراهيم القطيفي - البحراني - الخطي - أحمد الدندن - الصحاف 7
3 أحمد مسكويه 8
4 أحمد آل عصفور - البحراني 19
5 أحمد بن حاجي - الدرازي - الدمستاني - المتنبي 20
6 أحمد القطيفي 32
7 أحمد الغريفي 33
8 أحمد عصفور - الزاهد - الخطي - البحراني 41
9 أحمد البحراني - الزنجي - البلادي - العقيري 42
10 أحمد القطيفي - آل عصفور - الشايب - المصري 43
11 أحمد الصاحب 45
12 أحمد البحراني - الأحوص - إدريس الثاني 46
13 إدريس الأول 49
14 إسماعيل الصفوي 50
15 أم كلثوم القزوينية - أمانت 68
16 أويس الأول - أيوب البحراني - بابر 69
17 باقر الدمستاني - بيرم خان خانان 70
18 جارية بن قدامة السعدي 71
19 جعفر القطاع - البحراني 77
20 جواد علي - جويرية - حبيب بن قرين 78
21 حرز العسكري - حسن عصفور - القطيفي 79
22 الحسن الوزير المهلبي 81
23 حسن الدمستاني 92
24 الحسين النعالي - معتوق - آل عصفور 93
25 حسن الحيدري - البلادي - الحسين ابن خالويه 95
26 حسين الغريفي - البحراني - الماحوزي 98
27 الحسين الطغرائي 99
28 حسين الفوعي - القزويني 104
29 حسين نور الدين - الحسين بن سينا 105
30 حمد البيك 120
31 خلف آل عصفور - الخليل بن أحمد الفراهيدي 134
32 داود البحراني 138
33 درويش الغريفي - رقية الحائرية - رويبة - السائب - الأشعري - سعد صالح 139
34 سعيد حيدر 140
35 سليمان الأصبعي 151
36 شبيب بن عامر - صالح الكرزكاني - صخير 152
37 صدر الدين الصدر - طاشتكين 153
38 عبد الإمام - عبد الجبار - عبد الرؤوف - عبد الرضا - عبد الحسين القمي - ابن رقية 154
39 عبد الرحمان الهمداني - ابن عبيد 155
40 عبد الرحمان النعماني - عبد السلام بن رغبات ديك الجن 156
41 عبد الله الحلبي - عبد علي عصفور 158
42 عبد علي القطيفي - عبد العلي البيرجندي - عبد الغفار نجم الدولة 159
43 عبد الكريم الممتن 160
44 عبد الله المقابي - الحجري - البحراني - الكناني - الأزدي - ابن وال - الأزدي 162
45 عبد الله النهدي - الأحمر - عبد المحسن اللويمي 163
46 عبد النبي الدرازي - عبيد الله بن الحر الجعفي 164
47 عبيدة - عدنان الغريفي 172
48 علي الأحسائي - البحراني - المقابي - جعفر - الدمستاني 173
49 علي الصالحي - ابن الشرقية 174
50 علي بن المؤيد 176
51 علي باليل 183
52 سيف الدولة الحمداني - ابن بابويه 185
53 علي الغريفي 196
54 علي نقي الحيدري - ابن أسباط - الصحاف 201
55 علي الحماني 202
56 علي بن الفرات 211
57 علي التهامي 213
58 عمر بن العديم 218
59 عيسى عصفور - قيس بن عمرو النجاشي 220
60 كريب - مال الله الخطي - ماه شرف 222
61 محسن عصفور - محمد الأسدي 223
62 محمد الكناني 226
63 محمد بن أحمد الفارابي 227
64 محمد البيروني 232
65 محمد الدمستاني - السبعي - الشويكي - الخطي - السبزواري 245
66 محمد النيسابوري - الشريف الرضي محمد بن الحسين 246
67 محمد الكرزكاني - المقابي 281
68 محمد بن أبي جمهور الأحسائي 282
69 محمد البحراني - البرغاني 286
70 محمد تقي الفشندي - آل عصفور - الحجري - الهاشمي 287
71 محمد جواد دبوق - المقابي - البحراني - آل عصفور 297
72 محمد عباس الجزائري 298
73 محمد علي البرغاني 299
74 محمد صالح البرغاني 300
75 محمد قاسم الحسيني - البغلي 305
76 محمد علي الأصفهاني - محمد كاظم التنكابني - محمد محسن الكاشاني 308
77 محمد محسن العاملي - محمد مهدي البصير - محمد النمر 309
78 محمود بن الحسين كشاجم 312
79 مرتضى العلوي - مغامس الحجري - مصطفى جواد 322
80 معتوق الأحسائي 327
81 معد الموسوي - معقل بن قيس الرياحي 328
82 مهدي الحكيم 330
83 مهدي بحر العلوم 330
84 مهدي المازندراني - الحيدري 333
85 منصور كمونة 336
86 مهدي الكلكاوي - محمد طاهر الحيدري - محمد بن مسلم الزهري - خاتون - معمر البغدادي - محسن الجواهري 337
87 ناصر الجارودي - حسين - نصر النحوي - المدائني - القاضي النعمان 338
88 نعمة الله الجزائري - نعيم بن هبيرة 342
89 نوح آل عصفور - نور الدين القطيفي - هبة الله ابن الشجري 343
90 هشام الجواليقي - يحيى الفراء 344
91 يعقوب الكندي 349
92 يوسف بن قزغلي 355
93 ملحق المستدركات - صلاح الدين الأيوبي 356
94 الخراسانية والمتشيعة 361
95 العرب والمأمون ثم البويهيون 364
96 سعد صالح 367
97 صلاح الدين وخلفاؤه - إسماعيل الصفوي 368
98 ابن جبير في جبل عامل 370