الاحكام - ابن حزم - ج ٦ - الصفحة ٨٢٣
وقد قال بعض أهل الجهل: لو كلفنا النظر لضاعت أمورنا.
قال أبو محمد: وهذا كلام فاسد من وجوه:
أحدها: أنه يقال له: بل لو كلفنا التقليد لضاعت أمورنا، لأننا لم نكن ندري من نقلد من الفقهاء المفتين، وهم دون الصحابة أزيد من مائتي رجل معروفة أسماؤهم. وفي الحقيقة لا يدري عددهم إلا الله تعالى، إذ بالضرورة ندري أنه قد كان في كل قرية كبيرة للمسلمين مفت، وفي كل مدينة من مدائنهم عدة من المفتين، والمسلمون قد ملؤوا الأرض من السند إلى آخر الأندلس وسواحل البربر، ومن سواحل اليمن إلى ثغور أذربيجان وإرمينية، فما بين ذلك، والحمد لله رب العالمين.
وأيضا فإن النظر به صلاح الأمور لا ضياعها، وأيضا فإن كل امرئ منا مكلف أن يعرف ما يخصه من أمر دينه على ما بينا قبل، مما يجب على كل أحد من معرفة أحكام صلاته وصيامه، وما يلزمه وما يحرم عليه، وما هو مباح له وهذا هو النظر نفسه، ليس النظر شيئا غير تعريف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذه اللوازم لنا، ولو كلفنا الله تعالى إضاعة أمورنا للزمنا ذلك، كما لزم بني إسرائيل قتل أنفسهم إذا أمروا بذلك، وهذا أعظم من إضاعة الأمور، وقد أمرنا بهرق الخمور، وطرح الجيف، ورمي السمن الذائب يموت فيه الفأر، وحرم علينا الربا، وفي هذا كله إضاعة أموال عظيمة لها قيم كثيرة لو أبيحت لكانت من أنفس المكاسب، وأوفرها، فكيف وليس في النظر إضاعة أمر بل فيه حفظ كل شئ وتوفية كل الأمور حقها. ولله الحمد.
وقد صح عن الصحابة أنهم قالوا بآرائهم، صح ذلك عن أبي بكر وابن مسعود وعمر وعلي وغيرهم، وكلهم يقول: أقول في هذا برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني، وزاد بعضهم، ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان، وفعل ذلك أيضا من بعدهم، فإذا صح ذلك صح أنهم تبرؤوا من ذلك الرأي، ولم يروه على الناس دينا، فحرام على كل من بعدهم أن يأخذ من فتاويهم بشئ يتدين به، إلا أن يصح به نص عن الله تعالى، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي، نا أحمد بن خالد، ثنا أبو علي الحسن بن أحمد قال: حدثني محمد بن عبيد بن حساب، نا حماد بن زيد
(٨٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 818 819 820 821 822 823 824 825 826 827 828 ... » »»
الفهرست