الاحكام - ابن حزم - ج ٦ - الصفحة ٨٠٦
أكملت لكم دينكم) * وقوله تعالى: * (تلك حدود الله فلا تعتدوها) * وقوله تعالى:
* (ولا تنازعوا) * يبطل هذا الوجه الفاسد، ويوجب أن ما كان حراما حينئذ فهو حرام إلى يوم القيامة، وما كان واجبا يومئذ فهو واجب إلى يوم القيامة، وما كان حلالا يومئذ فهو حلال إلى يوم القيامة.
وأيضا فلو كان هذا لكنا إذا أخذنا بقول الواحد منهم فقد تركنا قول الآخر منهم، ولا بد من ذلك فلسنا حينئذ متبعين لسنتهم، فقد حصلنا في خلاف الحديث المذكور، وحصلوا فيه شاؤوا أو أبوا. ولقد أذكرنا هذا مفتيا كان عندنا بالأندلس وكان جاهلا، فكانت عادته أن يتقدمه رجلان، كان مدار الفتيا عليهما في ذلك الوقت، فكان يكتب تحت فتياهما: أقول بما قاله الشيخان، فقضى أن ذينك الشيخين اختلفا، فلما كتب تحت فتياهما ما ذكرنا، قال له بعض من حضر:
إن الشيخين اختلفنا؟ فقال: وأنا أختلف باختلافهما.
قال أبو محمد: فإذ قد بطل هذان الوجهان فلم يبق إلا الوجه الثالث، وهو أخذ ما أجمعوا عليه، وليس ذلك إلا فيما أجمع عليه سائر الصحابة رضوان الله عليهم معهم، وفي تتبعهم سنن النبي صلى الله عليه وسلم والقول بها.
وأيضا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أمر باتباع سنن الخلفاء الراشدين لا يخلو ضرورة من أحد وجهين: إما أن يكون صلى الله عليه وسلم أباح أن يسنوا سننا غير سننه، فهذا ما لا يقوله مسلم، ومن أجاز هذا فقد كفر وارتد وحل دمه وماله لان الدين كله إما واجب أو غير واجب، وإما حرام وإما حلال، لا قسم في الديانة غير هذه الأقسام أصلا، فمن أباح أن يكون للخلفاء الراشدين سنة لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أباح أن يحرموا شيئا كان حلالا على عهده صلى الله عليه وسلم إلى أن مات، أو أن يحلوا شيئا حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يوجبوا فريضة لم يوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يسقطوا فريضة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسقطها إلى أن مات، وكل هذه الوجوه من جوز منها شيئا فهو كافر مشرك بإجماع الأمة كلها بلا خلاف، وبالله تعالى التوفيق، فهذا الوجه قد بطل ولله الحمد.
وأما أن يكون أمر باتباعهم في اقتدائهم بسنته صلى الله عليه وسلم، فهكذا نقول ليس يحتمل هذا الحديث وجها غير هذا أصلا.
(٨٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 801 802 803 804 805 806 807 808 809 810 811 ... » »»
الفهرست