الاحكام - ابن حزم - ج ٦ - الصفحة ٨٠١
المخبر له عن الوقت والقبلة - إذ وقع به تصديقه - أمر قد قام الدليل على صحته، بل أكثر هذه الأمور توجب العلم الضروري بالجبلة، وبطل أن يكون ما ذكروا تقليدا، واحتج بعضهم بقول الله تعالى: * (واتبع ملة إبراهيم حنيفا) *.
قال أبو محمد: وهذا من القحة ما هو! لان الشئ الذي يأمر به الله ليس تقليدا، ولكنه برهان ضروري، والتقليد إنما هو اتباع من لم يأمرنا عز وجل باتباعه.
وإنما التقليد الذي نخالفهم فيه أخذ قول رجل ممن دون النبي صلى الله عليه وسلم، لم يأمرنا ربنا باتباعه، بلا دليل يصحح قوله، لكن فلانا قاله فقط، فهذا هو الذي يبطل، ولكن من لا يتقي الله عز وجل - ممن قد بهره الحق وعجز عن نصره الباطل، وأراد استدامة سوقه، ولا يبالي إلى ما أداه ذلك - أوقع على اعتقاد الحق الذي قد ثبت برهانه اسم التقليد، فسمى الانقياد لخبر الواحد تقليدا، وسمى الاجماع تقليدا وسمى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر باتباعه من ملة إبراهيم عليه السلام تقليدا.
فإن أرادوا منا تصحيح هذه المعاني فهي صحاح، لقيام النص بوجوبها، وإن أرادوا أن يتطرقوا بذلك إلى تقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة فذلك حرام وباطل، وليس في اتباع ملة إبراهيم ما يوجب اتباع مالك وأبي حنيفة والشافعي، لأنهم غير إبراهيم المأمور باتباعه، ولم نؤمر قط باتباع هؤلاء المذكورين، وإنما هذا بمنزلة من سمى الخنزير كبشا، وسمى الكبش خنزيرا فليس ذلك مما يحل الخنزير ويحرم الكبش.
وكذلك إنما نحرم اتباع من دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير دليل، ونوجب اتباع ما قام الدليل على وجوب اتباعه، ولا نلتفت إلى من مزج الأسماء، فسمى الحق تقليدا، وسمى الباطل اتباعا، وقد بينا قبل وبعد أن الآفة العظيمة إنما دخلت على الناس - وتمكن بهم أهل الشر والفسق والتخليط والسفسطة ولبسوا عليهم دينهم - فمن قبل اشتراك الأسماء واشتباكها على المعاني الواقعة تحتها.
ولذلك دعونا في كتبنا إلى تمييز المعاني، وتخصيصها بالأسماء المخلفة، فإن وجدنا في اللغة اسما مشتركا حققنا المعاني التي تقع تحته، وميزنا كل معنى منها بحدوده التي هي صفاته التي لا يشاركه فيها سائر المعاني، حتى يلوح البيان، فيهلك من هلك
(٨٠١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 796 797 798 799 800 801 802 803 804 805 806 ... » »»
الفهرست