الاحكام - ابن حزم - ج ٦ - الصفحة ٧٦٠
وليس ما رآه بعض المسلمين بأولى بالاتباع مما غيرهم من المسلمين، ولو كان ذلك لكنا مأمورين بالشئ وضده، وبفعل شئ وتركه معا، وهذا محال لا سبيل إليه، ثم يقال لهم: ما معنى قولكم: الاستحسان في هذه المسألة وجه كذا؟.
فجوابهم في ذلك أحد جوابين:
أحدهما: ما كانوا عليه فيما قارب عصر أبي حنيفة ومالك، وهو الذي يرونه أحوط أو أخف أو أقرب من العادة والمعهود، أو أبعد من الشناعة، وهذا كله بالجملة راجع إلى ما طابت عليه أنفسهم، وهذا باطل بقوله تعالى: * (ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) * * (إن النفس لامارة بالسوء) * وبقوله تعالى:
* (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم) * وقال تعالى: * (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) *.
وفي هذه الآي إبطال أن يتبع أحد ما استحسن بغير برهان من نص أو إجماع، ولا يكون أحد أحوط على العباد المؤمنين من الله خالقهم ورازقهم، وباعث الرسل إليهم، والاحتياط كله اتباع ما أمر الله تعالى به والشناعة كلها مخالفته، ولا مني لما نافرته قلوب لم تعتده، وهذا كله ظنون فاسدة لا تجوز إلا عند من لم يتمرن بمعرفة الحقائق، ولا حسن إلا ما أمر الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم أو أباحاه، ولا قبيح ولا شنيع إلا ما نهى عنه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وجواب لهم ثان: أجاب به الكرخي، وهو أن قال: هو أدق القياسين.
قال أبو محمد: وهذا القول يبطله كل ما نورده إن شاء الله في باب إبطال القياس من ديواننا هذا. وبالله تعالى التوفيق.
ويقال لهم: إن كان ههنا قياس يوجب ترك قياس آخر ويضاده ويبطله فقد صح بطلان دلالة القياس بإقراركم، وصح بالبرهان الضروري إبطال القياس كله جملة بهذا العمل، لان الحق لا يتضاد ولا يبطل بعضه بعضا، ولا يضاد برهان برهانا أبدا، لان معنى المضاد أن يبطل أحد المعنيين الآخر، والشئ إذا أبطله الحق فقد بطل، والباطل لا يكون حقا في حال كونه باطلا، وإذا أبطل بعض الشئ بعضا فواجب أن يكون كله باطلا، لما قلنا من أن الحق لا يبطل بعضه
(٧٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 755 756 757 758 759 760 761 762 763 764 765 ... » »»
الفهرست