الاحكام - ابن حزم - ج ٦ - الصفحة ٧٥٨
مذهب أبي حنيفة أحمد بن محمد الطحاوي، فأما القائلون به فإننا نجدهم يقولون في كثير من مسائلهم إن القياس في هذه المسألة كذا، ولكنا نستحسن فنقول غير ذلك.
قال أبو محمد: واحتج القائلون بالاستحسان بقول الله عز وجل: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب) *.
قال أبو محمد: وهذا الاحتجاج عليهم لا لهم، لان الله تعالى لم يقل فيتبعون ما استحسنوا وإنما قال عز وجل: * (فيتبعون أحسنه) * وأحسن الأقوال ما وافق القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا هو الاجماع المتيقن من كل مسلم، ومن قال غير هذا فليس مسلما، وهو الذي بينه عز وجل إذ يقول: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * ولم يقل تعالى فردوه إلى ما تستحسنون.
ومن المحال أن يكون الحق فيما استحسنا دون برهان، لأنه لو كان ذلك لكان الله تعالى يكلفنا ما لا نطيق، ولبطلت الحقائق ولتضادت الدلائل، وتعارضت البراهين، ولكان تعالى يأمرنا بالاختلاف الذي قد نهانا عنه، وهذا محال لأنه لا يجوز أصلا أن يتفق استحسان العلماء كلهم على قول واحد، على اختلاف هممهم وطبائعهم وأغراضهم، فطائفة طبعها الشدة، وطائفة طبعها اللين، وطائفة طبعها التصميم، وطائفة طبعها الاحتياط، ولا سبيل إلى الاتفاق على استحسان شئ واحد مع هذه الدواعي والخواطر المهيجة، واختلافها واختلاف نتائجها وموجباتها، ونحن نجد الحنفيين قد استحسنوا ما استقبحه المالكيون، ونجد المالكيين قد استحسنوا قولا قد استقبحه الحنفيون، فبطل أن يكون الحق في دين الله عز وجل مردودا إلى استحسان بعض الناس، وإنما كان يكون هذا - وأعوذ بالله - لو كان الدين ناقصا، فأما وهو تام لا مزيد فيه، مبين كله منصوص عليه، أو مجمع عليه فلا معنى لمن استحسن شيئا منه أو من غيره، ولا لمن استقبح أيضا شيئا منه أو من غيره.
والحق حق وإن استقبحه الناس، والباطل باطل وإن استحسنه الناس، فصح أن الاستحسان شهوة واتباع للهوى وضلال، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان.
وقد روى الفتيا بالرأي في مسائل عن الصحابة.
(٧٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 753 754 755 756 757 758 759 760 761 762 763 ... » »»
الفهرست