الاحكام - ابن حزم - ج ٦ - الصفحة ٧٥٤
وأيضا فإنهم يبيحون للمرء نكاح من زنى بها أبوه، ولا يحرمون عليه امرأته إن زنى بحريمتها، فهنا لا يدخلون التحريم بأرق سبب، بل بأغلظ سبب، وهو المتفق عليه في وطئ الحلال، ويبيحون قتل المقر بالزنى مرة واحدة، فيدخلون التحليل على الدم الحرام الذي هو أغلظ الحرمات بأرق سبب، وغيرهم لا يبيح دمه إلا بإقرار أربع مرات يثبت عليها ولا يرجع عنها أصلا، وكل هذا تناقض منهم وهدم لما أصلوه من أن التحريم يدخل بأرق الأسباب، ولا يدخل التحليل إلا بأغلظ الأسباب.
ومما يبطل قولهم غاية الابطال قول الله تعالى: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب) * وقوله تعالى: * (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون) *. فصح بهاتين الآيتين أن كل من حلل أو حرم ما لم يأت بإذن من الله تعالى في تحريمه أو تحليله فقد افترى على الله كذبا، ونحن على يقين من أن الله تعالى قد أحل لنا كل ما خلق في الأرض، إلا ما فصل لنا تحريمه بالنص لقوله تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * ولقوله تعالى (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) فبطل بهذين النصين الجليين أن يحرم أحد شيئا باحتياط أو خوف تذرع.
وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من توهم أنه أحدث ألا يلتفت إلى ذلك، وأن يتمادى في صلاته، وعلى حكم طهارته، هذا في الصلاة التي هي أوكد الشرائع، حتى يسمع صوتا أو يشم رائحة، فلو كان الحكم الاحتياط حقا لكانت الصلاة أولى ما احتيط لها، ولكن الله تعالى لم يجعل لغير اليقين حكما فوجب بما ذكرنا أن كل ما تيقن تحريمه فلا ينتقل إلى التحليل إلا بيقين آخر من نص أو إجماع، وكل ما تيقن تحليله فلا سبيل أن ينتقل إلى التحريم إلا بيقين آخر من نص أو إجماع، وبطل الحكم باحتياط. وصح أن لا حكم إلا لليقين وحده، والاحتياط كله هو ألا يحرم المرء شيئا إلا ما حرم الله تعالى، ولا يحل شيئا إلا ما أحل الله تعالى، وبطل بهذا أن تطلق امرأة على زوجها إذ شك أطلقها أم لا، لأنها زوجة بيقين فلا تحرم عليه إلا بيقين آخر من نص أو إجماع، وبالله تعالى التوفيق.
(٧٥٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 749 750 751 752 753 754 755 756 757 758 759 ... » »»
الفهرست