الاحكام - ابن حزم - ج ٦ - الصفحة ٧٥٥
نعم حتى لقد أداهم هذا الأصل الفاسد إلا أن حكموا في أشياء كثيرة بالتهمة التي لا تحل، فأبطلوا شهادة العدول لآبائهم وأبنائهم ونسائهم وأصدقائهم تهمة لهم بشهادة الزور والحيف. والحكم بالتهمة حرام لا يحل، لأنه حكم بالظن، وقد قال تعالى عائبا لقوم قطعوا بظنونهم فقال تعالى: * (وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) * وقال تعالى عائبا قوما قالوا: * (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) * وقال تعالى: * (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) * وقال تعالى: * (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) *.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الظن أكذب الحديث.
قال أبو محمد: فكل من حكم بتهمة أو باحتياط لم يستيقن أمره أو بشئ خوف ذريعة إلى ما لم يكن بعد، فقد حكم بالظن، وإذا حكم بالظن فقد حكم بالكذب والباطل، وهذا لا يحل وهو حكم بالهوى، وتجنب للحق نعوذ بالله من كل مذهب أدى إلى هذا، مع أن هذا المذهب في ذاته متخاذل متفاسد متناقض، لأنه ليس أحد أولى بالتهمة من أحد، وإذا حرم شيئا حلالا خوف تذرع إلى حر فليخص الرجال خوف أن يزنوا، وليقتل الناس خوف أن يكفروا، وليقطع الأعناب خوف أن يعمل منها الخمر، وبالجملة فهذا المذهب أفسد مذهب في الأرض، لأنه يؤدي إلى إبطال الحقائق كلها، وبالله تعالى التوفيق.
فإن تعلق متعلق بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعقبة بن الحارث إذ تزوج بنت أبي إهاب ابن عزيز فأتت الأمة السوداء فقالت: إني أرضعتكما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعها عنك كيف بك وقد قيل فهذا لا يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا وقد صح عنده وجوب الحكم بقول تلك الأمة السوداء، والخبر إذا صح عند الحاكم، والشهادة إذا ثبتت عنده لزمه أن يحكم بهما.
فإن قال قائل: لم يكن ذلك من قول الأمة السوداء شهادة لوجهين. أحدهما:
أنه لم تؤد ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أخبرت بذلك عقبة بن الحارث، وليس حكم الشهادة إلا أن تؤدى عند الحاكم. والوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قد قال:
إن شهادة المرأة نصف شهادة رجل فلا سبيل إلى تعدي هذه القضية، ولا إلى أن تكون شهادة المرأة كشهادة رجل فكيف أن تكون كشهادة رجلين.
(٧٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 750 751 752 753 754 755 756 757 758 759 760 ... » »»
الفهرست