الاحكام - ابن حزم - ج ٦ - الصفحة ٧٧٠
حدود الله فلا تعتدوها) *. فصح يقينا أنه لم يجعل الله قط إلى الصحابة تحريما ولا تحليلا، فقد صح أنه لم يأمره الله تعالى قط بمشورتهم في شئ من الدين، لا سيما مع قوله تعالى: * (فإذا عزمت فتوكل على الله) * فصح أنه ليس في الآية التي شغبوا بها قبول رأيهم أصلا، بل رد تعالى الامر إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يعزم عليه مع التوكل على الله.
وكيف يسع مسلما أن يخطر هذا الجنون بباله مع قول الله عز وجل: * (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم) * فكيف يجوز قبول رأي قوم لو أطاعهم لوقع العنت عليهم في أكثر الامر، أم كيف يدخل في عقل ذي عقل أن النبي صلى الله عليه وسلم تجب عليه طاعة أصحابه هذا هو الكفر المحض والسخف البين، بل طاعته هي الفرض عليهم التي لا يصح لهم إيمان إلا بها. قال الله تعالى:
* (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) *.
ثم إن وجوه الحمق في هذه المقالة جملة بادية، ليت شعري كيف كان يكون الامر لو اختلفوا عليه في الشرع فإن قيل: لا يلزم إلا باتفاقهم، خرجنا إلى الكلام في الاجماع، وبطل الكلام في الرأي، وقد كتبنا في دعوى الاجماع ما فيه كفاية، ولله تعالى الحمد.
وأيضا فلا فرق بين جواز شرع شريعة من إيجاب أو تحريم أو إباحة بالرأي لم ينص تعالى عليه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وبين إبطال شريعة شرعها الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بالرأي، والمفرق بين هذين العملين متحكم بالباطل مفتر، وكلاهما كفر لا خفاء به.
فصح يقينا أن الذي أمره الله تعالى بمشاورتهم فيه، وغبطهم بأن يكون أمرهم فيه شورى بينهم، إنما هو ما أبيح لهم التصرف فيه كيف شاؤوا فقط فتشاورهم من يولي على بني فلان، وأي الطرق إلى من يغزو من القبائل أفضل وأسهل وآمن، وأين يكون النزول فقط. وهذا كمشاورة المرء منا جاره إلى أي خياط أدفع ثوبي، وأي لون ترى لي أن أصبغه، ومثل هذا ولا مزيد، وقد يكون عند الصحابة من المعرفة بالطرق المسلوكة والمياه ما ليس عنده عليه السلام.
(٧٧٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 765 766 767 768 769 770 771 772 773 774 775 ... » »»
الفهرست