تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ١٩ - الصفحة ٣٦٣
قوله تعالى: " قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة قليلا ما تشكرون " الانشاء إحداث الشئ ابتداء وتربيته.
ما في ذيل الآية من لحن العتاب في قوله: " قليلا ما تشكرون " وقد تكرر نظيره في غير موضع من كلامه كما في سورة المؤمنون (1) والم السجدة (2) يدل على أن إنشاءه تعالى الانسان وتجهيزه بجهاز الحس والفكر من أعظم نعمه تعالى التي لا يقدر قدرها.
وليس المراد بإنشائه مجرد خلقه كيفما كان بل خلقه وإحداثه من دون سابقة في مادته كما أشار إليه في قوله يصف خلقه طورا بعد طور: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة - إلى أن قال - ثم أنشأناه خلقا آخر " المؤمنون: 14، فصيرورة المضغة إنسانا سميعا بصيرا متفكرا بتركيب النفس الانسانية عليها خلق آخر لا يسانخ أنواع الخلقة المادية الواردة على مادة الانسان من أخذها من الأرض ثم جعلها نطفة ثم علقة ثم مضغة فإنما هي أطوار مادية متعاقبة بخلاف صيرورتها إنسانا ذا شعور فلا سابقة لها تماثلها أو تشابهها فهو الانشاء.
ومثله قوله: " ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون " الروم: 20 (انظر إلى موضع إذا الفجائية).
فقوله: " هو الذي أنشأكم " إشارة إلى خلق الانسان.
وقوله: " وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة " إشارة إلى تجهيزه بجهاز الحس والفكر، والجعل إنشائي كجعل نفس الانسان كما يشير إليه قوله: " وهو الذي أنشأ لكم السمع والابصار والأفئدة قليلا ما تشكرون " المؤمنون: 78.
فالانسان بخصوصية إنشائه وكونه بحيث يسمع ويبصر يمتاز من الجماد والنبات - والاقتصار بالسمع والبصر من سائر الحواس كاللمس والذوق والشم لكونهما العمدة ولا يبعد أن يكون المراد بالسمع والبصر مطلق الحواس الظاهرة من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل - وبالفؤاد وهو النفس المتفكرة يمتاز من سائر الحيوان.

(1) الآية 78.
(2) الآية 9.
(٣٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 358 359 360 361 362 363 364 365 366 367 368 ... » »»
الفهرست