الاحكام - ابن حزم - ج ٨ - الصفحة ١١٤٣
وقالوا: لا بد له من الصيام والاتمام، أفترى الميل الواحد هو الذي حصلت فيه المشقة؟ أو ترى نصف اليوم الذي به تمت الثلاثة هو الذي حصلت المشقة دون اليومين ونصف يوم؟. هذا لا يحتمل مثله إلا من الله تعالى، الذي لا يسأل عما يفعل، وأما نحن فنسأل، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم المبين مراد ربه تعالى، ثم لم يكفهم إلا أن ادعوا على العقل هذا البهتان، لأنهم عند أنفسهم أهل الحكمة في الشريعة بما توجبه عقولهم.
وقد موه بعضهم بأنه إنما تعلق في ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
لا تسافر امرأة يوما وليلة إلا مع ذي محرم.
قال أبو محمد: إن احتجاجهم بهذا الحديث في إيجاب الفطر والقصر والقريب من تحديدهم المذكور، فليت شعري: أي شئ في منع المرأة من السفر يوما وليلة مما يوجب القصر في يوم وليلة؟ ومشي يوم وليلة يختلف؟ ففي أيام كانون الأول لا يكمل الراحل ثلاثين ميلا إلى الليل. وفي أيام صدر حزيران - في طيب الهواء وطول الأيام والشمس في آخر الجوزاء وأول السرطان - يكمل أربعين ميلا والركبان كذلك، والسير يختلف، فمن أين لهم أن يجدوا اليوم والليلة بأربعة برد؟. وقد علمنا أن بين مشي شيخ ضعيف وحمار أعرج، وبين مشي العساكر، وبين مشي الرفاق، وبين مشي المسافر الراكب دابة مطيقة، وبين مشي البريد في اختلاف الأزمان، أشد الاختلاف وأعظم التباين، فكيف يستجيز ذو لب أن يجد ما يقصر فيه ويفطر بثلاثة أيام، أو باليوم التام؟ ولا خلاف أن ما تمشيه العساكر في أربعة أيام الشتاء يمشيه البريد في يوم واحد في آخر الربيع وأول الصيف، وهذا معروف بالمشاهدة.
وأيضا، فإن ذلك الحديث قد جاء بألفاظ شتى ففي بعضها أكثر من ثلاثة أيام وفي بعضها ثلاثة أيام وفي بعضها ليلتين وفي بعضها يوم وليلة وفي بعضها يوم وفي بعضها بريد وفي بعضها لا تسافر على الاطلاق دون تحديد شئ أصلا، فبطل احتجاجهم به.
فإن تعلقوا بابن عمر وابن عباس، فقد خالفهم ابن مسعود وعائشة ودحية بن خليفة، وشرحبيل بن السمط وغيرهم من الصحابة، نعم، وابن عمر نفسه، فقد
(١١٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 1138 1139 1140 1141 1142 1143 1144 1145 1146 1147 1148 ... » »»
الفهرست