الاحكام - ابن حزم - ج ٨ - الصفحة ١١٣٣
وقال بعضهم: علة تحريم البر بالبر متفاضلا أنه مطعوم.
وقال بعضهم: العلة في ذلك أنه مكيل. وقال بعضهم: العلة في ذلك أنه مدخر.
قال أبو محمد: وكل واحد من هذه الطوائف مبطلة لما عدت به الأخرى، فكلهم قد اتفق على إبطال التعليل بلا خلاف بينهم، فليس ما أثبتت هذه الطائفة من التعليل بأثبت مما أثبتت الأخرى، ولا بعض هذه العلل أولى بالسقوط من سائرها، بل كلها دعوى زائفة ساقطة لا برهان عليها، وهكذا جميع عللهم.
وليت شعري كيف يسهل على من يخاف سؤال الله تعالى يوم القيامة أن يأتي بعلة لم يجدها قط لا لله تعالى ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم فيثبتها في الدين، فإنما ينسبها إلى الله تعالى فيكذب عليه، أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيقوله ما لم يقل، أو لا ينسب ذلك إلى الله تعالى ولا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيحصل في أن يحدث دينا من عنده نفسه، ولا بد من إحداهما، وهما خطتا خسف، نعوذ بالله منهما، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: ومنهم طوائف يمنعون من تخصيص العلل، ثم يجعلون علة الربا في التمر بالرطب مخصوصة يحدث العرايا. فيقرون أن النص أبطل علتهم، ولو كانت حقا ما أبطلها، لان الحق لا يبطل الحق، وكذلك لا يمكن أن يبطل حديث صحيح حديثا صحيحا إلا على سبيل النسخ فقط، وأما على معنى أن لا يقبل فلا سبيل إلى ذلك البتة. والحق لا يكذب بعضه بعضا أبدا.
قال أبو محمد: وقد سألهم من سلف من أصحابنا فقالوا: لو كانت العلة التي تدعون في الشرائع موجبة لما ادعيتم من تحليل أو تحريم، لكانت غير مختلفة أبدا، كما أن العلل العقلية لا تختلف أبدا.
مثال ذلك: أن الشدة والاسكار لو كانا علة لتحريم لكانت الخمر حراما مذ خلقها الله تعالى، فالخمر لم تزل مذ خلقها الله تعالى شديدة مسكرة، وقد كانت حلال في الاسلام سنين، وهي على الصفة هي الآن لم تبدل، ولا حدثت لها حال لم تكن قبل ذلك فبطل بهذا أن تكون الشدة علة التحريم، كما أن الباري تعالى جعل النارية علة الاحراق وتصعيد الرطوبات، فلا تزال كذلك أبدا،
(١١٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 1128 1129 1130 1131 1132 1133 1134 1135 1136 1137 1138 ... » »»
الفهرست