الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ١٧
فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير. فكأين من قرية أهلكتها وهى ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد. أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الابصار ولكن
____________________
كل قوم رسولهم وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره. النكير بمعنى الانكار والتغيير حيث أبدلهم بالنعمة محنة وبالحياة هلاكا وبالعمارة خرابا. كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة أو كرم فهو عرش. والحاوي: الساقط، من خوى النجم إذا سقط، من خوى النجم إذا سقط، أو الخالي من خوى المنل إذا خلا من أهله وخوى بطن الحامل. وقوله (على عروشها) لا يخلو من أن يتعلق بخاوية فيكون المعنى أنها ساقطة على سقوفها:
أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، أو أنها ساقطة أو خالية مع بقاء عروضها وسلامتها، وإما أن يكون خبرا بعد خبر كأنه قيل هي خالية وهى على عروشها: أي قائمة مطلة على عروشها على معنى أن السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان مائلة فهي مشرفة على السقوف الساقطة. فإن قلت: ما محل الجملتين من الاعراب: أعني وهى ظالمة فهي خاوية؟ قلت: الأولى في محل النصب على الحال، والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على أهلكناها، وهذا الفعل ليس له محل. قرأ الحسن معطلة من أعطله بمعنى عطله، ومعنى المعطلة أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء إلا أنها عطلت: أي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها والمشيد: المجصص أو المرفوع البنيان، والمعنى: كم قرية أهلكنا وكم بئر عطلنا عن سقاتها وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه، فترك ذلك لدلالة معطلة عليه، وفي هذا دليل على أن على عروشها بمعنى مع أوجه. روى أن هذه بئر نزل عليها صالح عليه السلام مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله من العذاب وهى بحضرموت، وإنما سميت بذلك لان صالحا حين حضرها مات، وثمة بلدة عند البئر اسمها حاضوراء بناها قوم صالح، وأمروا عليهم جلهس بن جلاس وأقاموا بها زمانا، ثم كفروا وعبدوا صنما، وأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه، فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرب قصورهم: يحتمل أنهم لم يسافروا فحثوا على السفر ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا، وأن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا. وقرئ (فيكون لهم قلوب) بالياء: أي يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد ويسمعون ما جيب سماعة من الوحي (فإنها) الضمير ضمير الشأن والقصة يجئ مذكرا ومؤنثا. وفى قراءة ابن مسعود فإنه، ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره (الابصار) وفى تعمى ضمير راجع إليه، والمعنى:
أن أبصارهم صحيحة سالمة لأعمى بها وإنما العمى بقلوبهم، أو لا يعتد بعمى الابصار فكأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب. فإن قلت: أي فائدة في ذكر الصدور؟ قلت: الذي قد تعورف وأعتقد أن العمى على الحقيقة مكانه البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب استعارة ومثل، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الابصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الابصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسانه وتثبيت لان محل المضاء هو هو لاغير، وكأنك قلت:
(١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 ... » »»