الامامة والقيادة - الدكتور أحمد عز الدين - الصفحة ١٩٥
الثالث: أنه لا خروج من الأزمة إلا بمعالجة النقص في الفكر السياسي، وبدلا من الاتجاه شرقا وغربا للبحث عن حل، علينا أن نطلع على ما عند غيرنا من أتباع هذا الدين الحنيف من فكر سياسي وتجربة حركية.
الرابع: أن الاختلاف وإن كان عميقا بيننا وبين الآخرين فيما يتعلق بالمرحلة الثانية من الدولة الإسلامية والأولى بعد وفاة المؤسس، إلا أن فكرهم فيما بعد ذلك لم أقف على أحد من عقلائنا رفضة أو يرفضه، اللهم إلا لدوافع مادية وأسباب تجارية يعرفها الراسخون في العلم بهذا الميدان. ومن هنا أرى فيما عندهم حلا شافيا لمشكلة القيادة في الحركة الإسلامية المعاصرة. (1)

(١) مع احترامنا للمؤلف نرى أنفسنا ملزمين بتوضيح مسألة قيادة الأئمة عليهم السلام ونيابة الفقهاء عنهم.
أما من ناحية تاريخية، فإن الشيعة بعد النبي صلى الله عليه وآله عملوا بوصيته وتمسكوا بقيادة الأئمة المعصومين من عترته عليهم السلام، ورجعوا إليهم، وأخذوا عنهم معالم دينهم وتوجيهاتهم في مختلف أمورهم، سواء كان الإمام المعصوم حاكما كعلي والحسن عليهما السلام، أو مسجونا كالإمام موسى الكاظم عليه السلام، أو مفروضا عليه الإقامة الجبرية كالإمام الجواد والهادي والعسكري عليهم السلام. واستمر الأمر على هذا حتى وقعت الغيبة الكبرى سنة ٣٢٩.
غاية الأمر أنهم في السبعين سنة الأخيرة كانوا يرجعون إلى الإمام المهدي عليه السلام بواسطة السفراء والوكلاء، فكانوا يكتبون إليه الرسائل والأسئلة، وتأتيهم الأجوبة (التوقيعات) ومعها الدلالات والآيات التي تقنعهم بأنها صادرة منه عليه السلام.
وعندما أخبرهم السفير الرابع علي بن محمد السمري قدس سره بأن الإمام عليه السلام أخبره بأنه سيتوفى بعد أيام وأمره أن لا يعهد إلى أحد من بعده، لأن الغيبة التامة قد وقعت حتى يأذن الله تعالى بالظهور، فكان هذا حدثا صعبا على الشيعة، بل كان هزة شديدة لجماعتهم، على رغم أن هذه الغيبة موعودة في أحاديث كثيرة، رووها هم وآباؤهم وأجدادهم.. وهنا نهض الفقهاء والرواة وألفوا العديد من الكتب في الغيبة الموعودة، وفيما يجب اعتقاده وعمله في عصر الغيبة.
ومن ناحية أخرى، كانت جماعة الشيعة في عاصمة الخلافة بغداد وفي بقية بلاد المسلمين أقلية مضطهدة، بل كانت تواجه في مناطق عديدة خطر الإبادة الكاملة، فلا يصح القول إنه حدث تقاعس عند الشيعة عن عقيدة الإمامة.
بل الصحيح أنه حدث فراغ كبير بغيبة الإمام عليه السلام وهزة عنيفة لجماعة الشيعة، ورافق ذلك اضطهاد الدولة، وتخطيطها للقضاء على هذه الجماعة وإبادتها نهائيا.
ولكن الشيعة استطاعوا أن يستوعبوا هزة الغيبة واضطهاد السلطة ويواصلوا وجودهم والتزامهم بعقيدتهم. وكان للفقهاء والرواة دور مؤثر في ذلك.
أما من ناحية عقيدية، فإن من ضرورات مذهب الشيعة أن الأرض لا تخلو من إمام، إما ظاهر مشهور أو خائف مستور، وقد كان علي عليه السلام ينادي بها من على منبر الخلافة. وأنه لو بقي شخصان على وجه الأرض لكان أحدهما إماما وحجة لله تعالى على الآخر. بل وردت الرواية بأن الأرض لو خليت من إمام لساخت بأهلها.
وهم يحتجون على المذاهب الأخرى بمثل قول النبي صلى الله عليه وآله (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي. كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروني بم تخلفوني فيها) مسند أحمد ج ٣ ص ١٧ فإن لا معنى لإخبار الله تعالى بعدم افتراق القرآن والعترة إلى يوم القيامة، إلا أنه تعالى تكفل بوجود إمام من العترة يبين القرآن في كل عصر إلى يوم القيامة.
نعم قد يبتلي الله عباده فيغيب عنهم حجته إلى مدة تقصر أو تطول، لأسباب وحكم لا نحيط بعلمها، كما حدث في خاتم الأئمة المهدي عليه السلام، حيث مد الله تعالى في عمره كما مد في عمر الخضر وغيره. وهنا يأتي دور مرجعية الفقهاء، كما اصطلح الشيعة على تسميته. ويمكن أن نسميه دور الفقهاء وقيادة الفقهاء، لكن لا يمكن أن نسميه (إمامة) الفقهاء بالمصطلح الشيعي، لأن الإمامة عند إطلاقها بدون قرينة مخصوصة بالإمام المعصوم المعين من الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وآله.
فينبغي الالتفات إلى أن إخواننا السنة قد أطلقوا لقب (الإمام) في القرون المتأخرة على الخليفة، ثم أطلقوه على كبار العلماء، ثم توسعوا في إطلاقه على الخلفاء والعلماء حتى اضطروا إلى إضافة وصف آخر معه ليدل على خليفة أو السلطان أو كبير العلماء، فقالوا (الإمام الأكبر) تمييزا له عن الأئمة الصغار.
أما الشيعة فكلمة الإمام عندهم أولا وبالذات اسم للإمام المعصوم عليه السلام، وعندما يطلقونها على غيره فمن باب التوسع المجازي ليس إلا، ومن خذا القبيل إطلاقها على المرحوم الإمام الخميني قدس سره، وليس بمعنى أنه أمام ثالث عشر، ولا بمعنى أن الشيعة يعتقدون بإمامة الفقهاء من سنة ٢٥٥ كما تصور المؤلف، فإن من ضرورات عقيدتهم (ومن الأمور التي كان يؤكد عليها الإمام الخميني قدس سره) أن الإمام المهدي عليه السلام هو الإمام الفعلي إمام العصر المفترض الطاعة، غاية الأمر أن الأمة محرومة من نعمة ظهوره وقيادته الفعلية المباشرة. والفقهاء نواب بالمعنى الأعم للنيابة، وبديل غير معصوم، رغم علو درجاتهم وشامخ مقامهم.
وقد جرى البحث ويجري في شروط الفقيه المرجع في عصر الغيبة وفي مدى صلاحياته، فمن قائل بأنه أعلم الفقهاء في كل عصر، ومن قائل بأن الأعلمية تعني الأقدر (أكاديميا) على استنباط الأحكام فقط، ولا تعني الأعلم بشؤون العصر والإدارة. ومن قائل يجوز تقليد كل مجتهد ولو كان غير الأعلم. ومن قائل إن صلاحياته الإفتاء والقضاء والأمور الحسبية فقط، ومن قائل تشمل صلاحياته مضافا إلى ما ذكر إجراء الحدود، ومن قائل تشمل كل ما يحتاج إليه إقامة الدولة وإدارتها، بل كل ما يراه مصلحة ولو اقتضى نزع الملكية عن المالك الشرعي وطلاق الزوجة من زوجها الشرعي، وهو ما يعبر عنه أخيرا بولاية الفقيه المطلقة.. وهو رأي المرحوم الإمام الخميني قدس الله نفسه الزكية.
وخلاصة القول: أن الإمام الفعلي عند الشيعة هو الإمام المهدي عليه السلام وإن كان غائبا، والفقهاء مراجع الدين نوابه بالمعنى الأعم لا الأخص. أما شروط الفقيه وحدود ولايته فهما مسألتان فقهيتان يرجع فيها المكلف إلى مرجع تقليده. وكذا المسائل التي طرحها المؤلف في الفصل الأخير، مثل تشكيل حركة إسلامية، أو حزب، أو استعمال هذا الأسلوب أو ذاك..
فهذه مسائل فقهية لا يصح للإنسان أن يفتي فيها إلا إذا كان مجتهدا جامعا للشرائط، ولا يجوز للمكلف أن يسلك هذا الطريق أو ذاك إلا بفتوى من مرجع تقليده.
وما دام محور الطرح الذي يقدمه المؤلف هو قيادة العلماء والمراجع، سواء كانوا على مذهب الشيعة أو مذاهب السنة، فهم الذين يفتون بوجوب العمل بهذا الأسلوب أو ذاك، ولا يصح لأحد أن يعين لهم تكليفهم وخط عملهم.
اللهم إلا أن يكون ما يقدمه تصورا واقتراحا من أجل البحث وإعطاء الفتوى فيه. ولعل ذلك هو قصد المؤلف المحترم. (الناشر)
(١٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 190 191 192 193 194 195 201 202 203 204 205 ... » »»
الفهرست