الاحكام - ابن حزم - ج ٨ - الصفحة ١١١٩
ولا كان إلا وافقا للناس ونافعا لهم، وكذلك قليل الخمر ليس فيه مما ذكر في الآية، ولا في كل من يشربها تفسد أخلاقهم، بل نجد كثيرا من الناس يبكون إذا سكروا ويكثرون ذكر الآخرة والموت والاشفاق من جهنم وتعظيم الله تعالى والدعاء في التوبة والمغفرة، ونجدهم يكرمون حينئذ ويحلمون، ويزول عنهم كثير من سفههم وتؤمن غوائلهم.
فصح بكل ما ذكرنا أن الله تعالى لم يجعل إرادة الشيطان لما ذكر تعالى في الآية سببا إلى تحريمها قط، لكن شاء تعالى أن يحرمها إذ حرمها، وقد كانت حلالا مدة ستة عشرة عاما في الاسلام، وقد كان كل ذلك موجودا من الشيطان فينا وفي كثير الخمر وهي، حلال يشربها الصالحون بعلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكر ذلك. فلو كان ما وصفها الله تعالى به من الصد عن الصلاة، وعن ذكر الله تعالى، وإيقاع الشيطان العداوة والبغضاء بها علة للتحريم، لما وجدت قط إلا محرمة، لأنها لم تكن قط إلا مسكرة، ولم يكن الشيطان قط إلا مريدا لالقاء العداوة والبغضاء بيننا فيها، وكانت حلالا وهي بهذه الصفة فبطل أن يكون إسكارها علة لتحريمها، أو سبب، لا في الوقت الذي نص الله عز وجل على تحريمها فيه ولا قبله البتة، لان قوله عز وجل: * (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) * إنما هو إخبار عن سوء معتقد الشيطان فينا، ولم يقل قط تعالى إن إرادة الشيطان لذلك هو علة تحريمها، ولا أنه سبب تحريمها، ولا يحل لاحد أن يخبر عن الله تعالى بما لم يخبر به عز وجل عن نفسه، ولا أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا هو قولنا: إن المراعى هو النص لا ما عداه أصلا. وبالله تعالى التوفيق.
وقد قال بعض أصحابنا: إن إرادة الشيطان إيقاع العداوة والبغضاء بيننا في الخمر، إنما كان بعد تحريمها، لان شاربها بعد التحريم صاد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، مبغض من الصالحين ومعاد لهم.
قال أبو محمد: وهذا أيضا قد اقتضاه الذي ذكرناه، وزاد عليه وبالله تعالى نتأيد، وقد أدى تعليلهم، هذا الفاسد المفترى، جماعة من الجهال إلى
(١١١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 1114 1115 1116 1117 1118 1119 1120 1121 1122 1123 1124 ... » »»
الفهرست