الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ١ - الصفحة ٦٥٥
أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين. قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين. وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب.
____________________
نداء ثان (وتكون لنا عيدا) أي يكون يوم نزولها عيدا، قيل هو يوم الأحد ومن ثم اتخذه النصارى عيدا، وقيل العيد السرور العائد ولذلك يقال يوم عيد، فكأن معناه: تكون لنا سرورا وفرحا، وقرأ عبد الله تكن على جواب الامر ونظيرهما يرثني ويرثني (لأولنا وآخرنا) بدل من لنا بتكرير العامل: أي لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا، وقيل يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم، ويجوز للمقدمين منا والاتباع وفي قراءة زيد لأولنا وأخرنا والتأنيث بمعنى الأمة والجماعة (عذابا) بمعنى تعذيبا، والضمير في لا أعذبه للمصدر، ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء. روي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفا ثم قال: اللهم أنزل علينا، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وأخرى تحتها وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه السلام وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة وقال لهم: ليقم أحسنكم عملا يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها، فقال شمعون رأس الحواريين: أنت أولى بذلك، فقام عيسى فتوضأ وصلى وبكى، ثم كشف المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد، فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ فقال: ليس منهما، ولكنه شئ اخترعه الله بالقدرة العالية، كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله، فقال الحواريون: يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى؟ فقال يا سمكة أحيي بإذن الله، فاضطربت ثم قال لها: عودي كما كنت، فعادت مشوية ثم طارت المائدة ثم عصوا بعدها فمسخوا قردة وخنازير. وروي أنهم لما سمعوا بالشريطة وهي قوله تعالى - فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه - قالوا لا نريد فلم تنزل. وعن الحسن: والله ما نزلت ولو نزلت لكانت عيدا إلى يوم القيامة لقوله وآخرنا والصحيح أنها نزلت (سبحانك) من أن يكون لك شريك (ما يكون لي) ما ينبغي لي (أن أقول) قولا لا يحق لي أن أقوله (في نفسي) في قلبي، والمعنى: تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، ولكنه سلك بالكلام طريق المشاكلة وهو من فصيح الكلام وبينه فقيل (في نفسك) لقوله في نفسي (إنك أنت علام الغيوب) تقرير للجملتين معا، لان ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب، ولان ما يعلمه علام الغيوب لا ينتهي إليه علم أحد.
(٦٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 649 650 651 652 653 654 655 656 657 658 659 » »»