شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ٤ - الصفحة ٢٣٦
باب البداء (1) البداء بالفتح والمد في اللغة ظهور الشيء بعد الخفاء وحصول العلم به بعد الجهل واتفقت الأمة على امتناع ذلك على الله سبحانه إلا من لا يعتد به ومن افترى ذلك على الإمامية فقد افترى كذبا، والإمامية منه براء (2) وفي العرف على ما استفدت من كلام العلماء وأئمة الحديث يطلق على معان

١ - قوله: «باب البداء» قوام معنى البداء بتغير العزم، فإذا عزم رجل على فعل شيء ثم تبين له عدم المصلحة فيه وندم على عزمه وتغير قصده قيل: بدا له أي ندم وعلم أن عزمه السابق كان خطأ، وهذا معنى محال على الله تعالى باتفاق الأمة لاستلزامه الجهل على الله تعالى وحدوث علمه بالمفسدة في فعل بدا له فيه، وربما تمحل بعض وقال: إنا لا نقول بالجهل والندامة بل الله تعالى قضى حكما يعلم أنه يغيره بسبب حادث مثلا ويحكم الله تعالى بقصر عمر زيد مع أنه يعلم أنه يتصدق ويصل الرحم فيستحق طول العمر ويغير الحكم الأول ويطيل عمره وهذا معنى لا يناسب سائر أقوال الشيعة; لأن فيه تناقضا صريحا مثل أن يقال عزم زيد على إقامة عشرة أيام في بلد مع أنه يعلم أنه لا يقيم به أكثر من ثلاثة أيام وكيف يحكم الله تعالى بقصر عمر رجل يعلم أنه يطيل عمره؟ فإن قيل لا تناقض في حكمين مختلفين موقوفين على شرطين مختلفين فيحكم بقصر عمره إن لم يصل الرحم ولم يتصدق، وبطوله إن وصله وتصدق، فيرفع التناقض باختلاف الشرط. قلنا: لا يطلق الإرادة والمشية والقضاء والقدر وأمثالهما إلا على الطرف المثبت الذي حصل شرطه الذي حكم الشارع بوقوعه ولا يطلق على ما يعلم تعالى أنه لا يقع قط، فلا يقال: قضى الله تعالى بظلمة النهار وضياء الليل على فرض كون الشمس طالعة ليلا وآفلة نهارا وكذلك لا يقال قضى الله بكون الحمار ناطقا أي إن صار إنسانا وكون النار باردة أي إن صارت ماء وكون عمر زيد قصيرا إن لم يصل الرحم مع علمه تعالى بكون عمره طويلا لصلة الرحم. وقد أولوا ما ورد من لفظ البداء تأويلا لا يستلزم المحال.
٢ - قوله: «والإمامية منه براء» صرح بذلك; لأن مخالفينا نسبوا إلينا القول بالبداء ويعيبون به على مذهبنا حتى أن الفخر الرازي نقل في آخر كتابه المسمى بالمحصل عن سليمان بن جرير الزيدي كلاما لا يتفوه به مسلم، قال: إن أئمة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم لا يظفر معهما أحد عليهم: الأول القول بالبداء فإذا قالوا إنه سيكون لهم قوة وشوكة ثم لا يكون الأمر على ما أخبروه قالوا: بدا لله تعالى فيه، ثم نقل أشعارا عن زرارة وقال: الثاني التقية فكلما أرادوا شيئا يتكلمون به فإذا قيل لهم هذا خطأ وظهر بطلانه قالوا إنما قلناه تقية، انتهى.
وقال المحقق الطوسي (رحمه الله): إنهم - يعني الشيعة - لا يقولون بالبداء وإنما القول بالبداء ما كان إلا في رواية رووها عن جعفر الصادق (عليه السلام) أنه جعل إسماعيل القائم مقامه فظهر من إسماعيل ما لم يرتضه منه فجعل القائم موسى، فسئل عن ذلك فقال: بدا لله في أمر إسماعيل، وهذه رواية وعندهم أن الخبر الواحد لا يوجب علما ولا عملا، انتهى.
يعني: ليس خبر الواحد حجة في أصول الدين إذ لا يوجب العلم ولا في فروع الدين لأنه لا يقوم به الحجة ولا يوجب العمل.
وأما العلامة المجلسي فقد نقل بعض ما سبق من كلام الفخر الرازي. ثم قال: وأعجب منه أنه أجاب المحقق الطوسي (رحمه الله) في نقد المحصل عن ذلك لعدم إحاطته كثيرا بالأخبار بأنهم لا يقولون بالبداء وإنما القول به ما كان إلا في رواية.
وأقول: ليس إنكار البداء خاصا بالمحقق الطوسي (قدس سره) بل كل من وجدنا له قولا ممن يعتبر قوله من العلماء واطلعنا على رأيه في الآراء وافق المحقق الطوسي في نفي البداء وتبرئة الإمامية عن القول به منهم السيد المرتضى (رحمه الله) في الذريعة وشيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في العدة والتبيان وحبر الأمة وأعلم علمائها بعد المعصومين (عليهم السلام) الشيخ العلامة الحسن بن يوسف بن مطهر الحلي فإنه قال في نهاية الأصول في البحث الرابع من الفصل الأول من المقصد الثامن: النسخ جائز على الله تعالى لأن حكمه تابع للمصالح... والبداء لا يجوز عليه تعالى... لأنه دل على الجهل أو على فعل القبيح وهما محالان في حقه، انتهى.
ونظير ذلك في تفسير مجمع البيان كثير وفى تفسير أبي الفتوح الرازي نسبة نفي البداء إلى مذهبنا في مواضع كثيرة منها في الصفحة 4 و 286 من المجلد الأول ط 1383 وقال السيد عميد الدين في شرح التهذيب في باب عدم جواز نسخ الحكم قبل وقت التمكن من الفعل: بأنه لو جاز ذلك لزم البداء أعني ظهور حال الشيء بعد خفائه على الله تعالى، والتالي باطل فالمقدم مثله - إلى آخر ما قال، ولو لم يكن خوف الإطالة لنقلنا شيئا كثيرا من كلام علمائنا السابقين ولا أظن أحدا من الامامية يلتزم بالبداء من غير تأويل حتى أن العلامة المجلسي (رحمه الله) أوجب ظاهرا التلفظ به تأدبا لا الاعتقاد بمعناه تعبدا لأنه أيضا أوله تأويلا.
فإن قيل: فما تقول فيما ورد في أخباركم من لفظ البداء.
قلنا: كلامنا في إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى نظير كلامنا في إطلاق الغضب والرضا والأسف، كما قال: (فلما آسفونا انتقمنا) والنسيان في قوله (نسوا الله فنسيهم) وقوله (كذلك اليوم تنسى) أمثال ذلك يجب تأويله بما يوافق المذهب والعقل، والجامع لجميع ذلك أنه تعالى يعامل معاملة الراضي والغاضب والناسي والمحزون والنادم على ما فعل. لا أنه تعالى متصف بهذه الصفات واقعا. وقد أطالوا الكلام في تأويل البداء ونكتفي هنا بما قاله صدر المتألهين (قدس سره) ومرجعه إلى نسبة البداء إلى بعض مخلوقاته تعالى من الملائكة والنفوس الكلية وهو غير بعيد كما مر نظيره في خبر حمزة بن بزيع في الباب السابق في تأويل قوله تعالى (فلما آسفونا انتقمنا) قال الصادق (عليه السلام): «إن الله تعالى لا يأسف كأسفنا ولكنه خلق أولياء لنفسه مخلوقون مربوبون فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه - إلى أن قال - هكذا الرضا والغضب وغيرهما مما يشاكل ذلك» ومبنى كلام الصدر على أن بعض الملائكة وهم العقول القادسة يعلمون بتعليم الله ما سيقع على ما هو عليه وبعضهم كالنفوس يعلمون الأسباب المؤدية إلى شيء من غير أن يطلعوا على ما يتفق مما نعته لها فيظهر ما يقع على خلاف ما علموا كمن يعلم أن الزرع بعد نموه وبدو صلاحه يحصل منه مقدار من الطعام ولا يعلم السيل أو النار أو الدابة أو الجند يفسدون الزرع، ومثله حديث آخر مضى آنفا عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «إن الله أعظم وأجل وأعز وأمنع من أن يظلم ولكن خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه» وسنذكر تأويلات أخر - ذكرها علماؤنا - في تضاعيف الشرح. (ش)
(٢٣٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 231 232 233 234 235 236 237 238 239 240 241 ... » »»
الفهرست