الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٢٣
الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب. ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوى عزيز. الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس ان الله سميع بصير. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور. يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون. وجاهدوا في الله حق جهاده.
____________________
أبلغ ما أنزله الله في تجهيل قريش واستركاك عقولهم والشهادة على أن الشيطان قد خزمهم بخزائمه حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضى الاقتدار على المقدورات كلها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها صورا وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه الله وأذله وأصغره وأحقره ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا، وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء قدرتهم أن هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا. قوله (ضعف الطالب والمطلوب) كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف لان الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب وذاك مغلوب. وعن ابن عباس أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل لذباب من الكوى فيأكله (ما قدروا الله حق قدره) أي ما عرفوه حق معرفته حتى لا يسموا باسمه من هو منسلخ عن صفاته بأسرها ولا يؤهلوه للعبادة ولا يتخذوه شريكا له إن الله قادر غالب، فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيها به. هذا رد لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر وبيان أن رسل الله على ضربين ملائكة وبشر. ثم ذكر أنه تعالى دراك للمدركات عالم بأحوال المكلفين ما مضى منها وما غير لا تخفى عليه منهم خافية. وإليه مرجع الأمور كلها، والذي هو بهذه الصفات لا يسئل عما يفعل وليس لاحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله. للذكر شأن ليس لغيره من الطاعات، وفى هذه السورة دلالات على ذلك فمن ثمة دعا المؤمنين أولا إلى الصلاة التي هي ذكر خالص ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحج والغزو ثم عم بالحث على سائر الخيرات. وقيل كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود. وقيل معنى (واعبدوا ربكم) اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله.
وعن ابن عباس في قوله (وافعلوا الخير) صلة الأرحام ومكارم الأخلاق (لعلكم تفلحون) أي افعلوا هذا كله وأنتم راجون للفلاح طامعون فيه غير مستيقنين ولا تتكلوا على أعمالكم. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال " قلت يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما " وعن عبد الله بن عمر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما " فضلت سورة الحج سجدتين " وبذلك احتج الشافعي رضي الله عنه فرأى سجدتين في سورة الحج، وأبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم لا يرون فيها إلا سجدة واحدة لانهم يقولون قرن السجود بالركوع فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة (وجاهدوا) أمر بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر. عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه رجع من بعض غزواته فقال: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " (في الله) أي في ذات الله ومن أجله. يقال هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقا وجدا ومنه (حق جهاده). فإن قلت: ما وجه هذه الإضافة وكان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال - وجاهدوا في الله -؟ قلت: الإضافة تكون
(٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 ... » »»