الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ١٧
لا يعلمون. وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم، ما فرطنا في الكتاب من شئ، ثم إلى ربهم يحشرون. والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات، من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم
____________________
لا يعلمون) أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية وأن صارفا من الحكمة يصرفه عن إنزالها (أمم أمثالكم) مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم (ما فرطنا) ما تركنا وما أغفلنا (في الكتاب) في اللوح المحفوظ (من شئ) من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت مما يختص به (ثم إلى ربهم يحشرون) يعني الأمم كلها من الدواب والطير فيعوضها وينصف بعضها من بعض، كما روى أنه يأخذ للجماء من القرناء. فإن قلت:
كيف قيل إلا أمم مع إفراد الدابة والطائر؟ قلت: لما كان قوله تعالى - وما من دابة في الأرض ولا طائر - دالا على معنى الاستغراق ومغنيا عن أن يقال: وما من دواب ولا طير، حمل قوله إلا أمم على المعنى. فإن قلت: هلا قيل وما من دابة ولا طائر إلا أمم أمثالكم، وما معنى زيادة قوله في الأرض ويطير بجناحيه؟ قلت: معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة، كأنه قيل: وما من دابة قط في جميع الأرضين السبع وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها. فإن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟
قلت: الدلالة على عظم قدرته ولطف علمه وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف وهو حافظ لما لها وما عليها مهيمن على أحوالها لا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان. وقرأ ابن أبي عبلة ولا طائر بالرفع على المحل، كأنه قيل وما دابة ولا طائر.
وقرأ علقمة ما فرطنا بالتخفيف. فإن قلت: كيف أتبعه قوله (والذين كذبوا بآياتنا)؟ قلت: لما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته وينادي على عظمته، قال: والمكذبون (صم) لا يسمعون كلام المنبه (بكم) لا ينطقون بالحق خابطون في ظلمات الكفر فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه ثم قال إيذانا بأنهم من أهل الطبع (من يشأ الله يضلله) أي يخذله ويخله وضلاله لم يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف (ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم
(١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 ... » »»