الاحكام - ابن حزم - ج ١ - الصفحة ٧
الفضائل واجتناب الرذائل، وهي السيرة الفاضلة على الحقيقة التي تخيرها لنا واهب النعم، لا إله إلا هو، فلا فضيلة إلا اتباع ما أمر الله عز وجل به، أو حض عليه، ولا رذيلة إلا ارتكاب ما نهى الله تعالى عنه أو نزه منه، وأما الكيس في أمور الدنيا لا يبالي المرء ما وفق في استجلاب حظه فيها، من علو صوت، أو عرض جاه، أو نمو مال، أو نيل لذة من طاعة أو معصية، فليس ذلك عقلا، بل هو سخف وحمق ونقص شديد وسوء اختيار، وقائد إلى الهلاك في دار الخلود.
وقد شهد ربنا تعالى أن متاع الدنيا غرور، وقد علمنا أن تارك الحق ومتبع الغرور سخيف الاختيار، ضعيف العقل، فاسد التمييز وبرهان ذلك أن كل تمييز في إنسان بان به عن البهائم، فهو يشهد أن اختيار الشئ القليل في عدده، الضعيف في منفعته، المشوب بالآلام والمكاره، الفاني بسرعة، على الكثير في عدده العظيم في منفعته، الخالص من الكدر والمضار، الخالد أبدا، حمق شديد وعدم للعقل البتة. ولو أن امرأ خير في دنياه بين سكناه مائة عام في قصر أنيق، واسع ذي بساتين وأنهار ورياض وأشجار، ونواوير وأزهار، وخدم وعبيد وأمن فاش وملك ظاهر، ومال عريض، إلا أن في طريقه إلى ذلك مشي يوم كامل في طريق فيها بعض الحزونة لا كلها، وبين أن يمشي ذلك اليوم في طريق فيها مروج حسنة، وفي خلالها مهالك ومخاوف وظلال طيبة، وفي أثنائها أهوال ومتالف، ثم يفضي عند تمام ذلك اليوم إلى دار ضيقة، ومجلس ضنك ذي نكد وشقاء وخوف وفقر وإقلال، فيسكنها مائة عام، فاختار هذه الدار الحرجة لسرور يوم ممزوج بشوائب البلاء، يلقاه في طريقه نحوها لكان عند كل من سمع خبره ذا آفة شديدة في تمييزه، وفاسد العقل جدا، ظاهر الحمق ردئ الاختيار، مذموما مدحورا ملوما.
وهذه حال من آثر عاجل دنياه على آجل أخراه. فكيف بمن اختار فانيا عن قريب على ما لا يتناهى أبدا. اللهم إلا أن يكون شاكا في منقلبه، متحيرا في مصيره، فتلك أسوأ بل هي التي لا شوى لها، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله التوفيق والعصمة بمنه آمين.
(٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « 1 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 كلمة المطبعة وفيها تعليل شدة ابن حزم على الفقهاء 3
2 وعد.. ووعد 4
3 خطبة الكتاب 5
4 المقدمة وفيها بيان قوى النفس الإنسانية 6
5 الباب الأول في الغرض المقصود من الكتاب 7
6 الباب الثاني في فهرس الكتاب وأبوابه 12
7 الباب الثالث في إثبات حجج العقول 14
8 الباب الرابع في كيفية ظهور اللغات 28
9 الباب الخامس في الألفاظ (الاصطلاحية) الدائرة بين أهل النظر 34
10 فصل في حروف المعاني التي تتكرر في النصوص 46
11 الباب السادس هل الأشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أم على أم على الإباحة 47
12 فصل فيمن لم يبلغه الأمر من الشريعة 55
13 الباب السابع في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف 59
14 فصل في هل على النافي دليل أم لا 68
15 الباب الثامن في البيان ومعناه 71
16 الباب التاسع في تأخير البيان 75
17 الباب العاشر في الأخذ بموجب القرآن 85
18 الباب الحادي عشر في الكلام في الأخبار (وهى السنن المنقولة عن رسوله الله (ص) 87
19 فصل فيه أقسام الأخبار عن الله تعالى 93
20 فصل في هل يوجب خبر الواحد العلم مع العمل أو العمل دون العلم 107
21 صفة من يلزم قبول نقله الأخبار 122