الاحكام - ابن حزم - ج ١ - الصفحة ٥٠
هنا حال حدثت لهم، إلا أن الله تعالى أراد أن يعذبهم في الآخرة، ولو شاء أن يستمر نعيمهم لفعل، ولكن ورد النص بالتعذيب قلنا به، وقال بعض القائلين بالإباحة: محال أن يخلق الله تعالى فينا الشهوات المقتضية لما تقتضيه ثم يحظر علينا ما خلق لنا.
قال علي: هذه مكابرة العيان، وليست هذه هي حجة مسلم، لان الله عز وجل وقد فعل ما أنكروا، وخلق فينا شهوات تقتضي إتيان الفواحش في كل امرأة جميلة نراها أو في حسان الغلمان، وشرب الخمور في البساتين، وأخذ كل شئ استحسنته النفوس والراحة، وترك التعرض لسيوف أهل الشرك، والنوم عن الصلوات في الهواجر الحارة والغدوات القارة، ثم حرم علينا ذلك كله.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى قد عوض من ذلك أشياء أباحها، وعوض على ترك ما حرم ما هو خير وهو الجنة، قلنا له وبالله تعالى التوفيق: لقد كان تعالى قادرا أن يجمع الامرين لنا معا، ولقد كان يكون ذلك أقل لتعبنا وألذ لنفوسنا وأروح لأجسامنا وأتم لسرورنا، ولكنه تعالى لم يرد إلا ما ترى لا معقب لحكمه.
وبيان ذلك: أنه قد نعم قوما في الدنيا والآخرة، كداود وسليمان عليهما السلام وأعطاهما اللذات العظيمة والملك السنيع والنبوة مع ذلك. وسلط على أيوب وهو نبي مثلهما من البلايا ما لا قبل لاحد به دون ذنب سلف منه، ولا إحسان سلف من سليمان وداود على جميعهم الصلاة والسلام، وسلط محمدا صلى الله عليه وسلم على جميع أعدائه، وعصمه منهم، ومنحه النصر عليهم، وسلط على أنبياء أخر أعداءهم فقتلوهم بأنواع المثل، وكلهم مع ذلك من مسعود مسلط على عدوه في الدنيا ومحروم مسلط عليه عدوه فيها، وكلهم مجتمعون في الجنة متنعمون فيها وفعل بنا ذلك أيضا، فمن محسن منعم، ومن محسن مشقي، وقد نعم أيضا عز وجل ملوكا من الكفار في الدنيا، وأصحبهم النصر والتأييد إلى أن قبض أرواحهم إلى النار، وهم أطغى خلق الله وأكفره، وأشد تسلطا على الفواحش. وحرم آخرين من الكفار، فقتلهم بالفاقة والجوع والعري والقمل والمسألة من باب إلى باب مع
(٥٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 كلمة المطبعة وفيها تعليل شدة ابن حزم على الفقهاء 3
2 وعد.. ووعد 4
3 خطبة الكتاب 5
4 المقدمة وفيها بيان قوى النفس الإنسانية 6
5 الباب الأول في الغرض المقصود من الكتاب 7
6 الباب الثاني في فهرس الكتاب وأبوابه 12
7 الباب الثالث في إثبات حجج العقول 14
8 الباب الرابع في كيفية ظهور اللغات 28
9 الباب الخامس في الألفاظ (الاصطلاحية) الدائرة بين أهل النظر 34
10 فصل في حروف المعاني التي تتكرر في النصوص 46
11 الباب السادس هل الأشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أم على أم على الإباحة 47
12 فصل فيمن لم يبلغه الأمر من الشريعة 55
13 الباب السابع في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف 59
14 فصل في هل على النافي دليل أم لا 68
15 الباب الثامن في البيان ومعناه 71
16 الباب التاسع في تأخير البيان 75
17 الباب العاشر في الأخذ بموجب القرآن 85
18 الباب الحادي عشر في الكلام في الأخبار (وهى السنن المنقولة عن رسوله الله (ص) 87
19 فصل فيه أقسام الأخبار عن الله تعالى 93
20 فصل في هل يوجب خبر الواحد العلم مع العمل أو العمل دون العلم 107
21 صفة من يلزم قبول نقله الأخبار 122