الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ٣٠٣
الذي يوسوس في صدور الناس. من الجنة والناس.
____________________
جبير " إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى، فإذا غفل وسوس إليه " (الذي يوسوس) يجوز في محله الحركات الثلاث، فالجر على الصفة، والرفع والنصب على الشتم، ويحسن أن يقف القارئ على الخناس ويبتدئ الذي يوسوس إلى أحد هذين الوجهين (من الجنة والناس) بيان للذي يوسوس على أن الشيطان ضربان: جني وإنسي كما قال " شياطين الإنس والجن " وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال لرجل: هل تعوذت بالله من الشيطان الإنس؟
ويجور أن يكون من متعلقا بيوسوس ومعناه ابتداء الغاية: أي يوسوس في صدورهم من جهة الجن ومن جهة الناس. وقيل من الجنة والناس بيان للناس، وأن اسم الناس ينطلق على الجنة واستدلوا بنفر ورجال في سورة الجن، وما أحقه لأن الجن سموا جنا لاجتنانهم، والناس ناسا لظهورهم من الإيناس وهو الإبصار كما سموا بشرا، ولو كان يقع الناس على القبيلين وصح ذلك وثبت لم يكن مناسبا لفصاحة القرآن وبعده من التصنع، وأجود منه أن يراد بالناس الناسي كقوله - يوم يدع الداع - وكما قرئ - من حيث أفاض الناس - ثم يبين بالجنة والناس لأن الثقلين هنا النوعان الموصوفان بنسيان حق الله عز وجل. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد أنزلت علي سورتان ما أنزل مثلهما، وإنك لن تقرأ سورتين أحب ولا أرضى عند الله منهما " يعني المعوذتين، ويقال للمعوذتين المقشقشتان.
قال عبد الله الفقير إليه: وأنا أعوذ بهما وبجميع كلمات الله الكاملة التامة، وألوذ بكنف رحمته الشاملة العامة، من كل ما يكلم الدين، ويثلم اليقين، أو يعود في العاقبة بالندم، أو يقدح في الإيمان المسوط باللحم والدم.
وأسأله بخضوع العنق وخشوع البصر، ووضع الخد لجلاله الأعظم الأكبر، مستشفعا إليه بنوره الذي هو الشيبة في الإسلام، متوسلا بالتوبة الممحصة للآثام، وبما عنيت به من مهاجرتي إليه ومجاورتي، ومرابطتي بمكة ومصابرتي، على تواكل من القوى، وتخاذل من الخطأ. ثم أسأله بحق صراطه المستقيم، وقرآنه المجيد الكريم، وبما لقيت من كدح اليمين، وعرق الجبين، في عمل الكشاف عن حقائقه، المخلص عن مضايقه، المطلع على غوامضه، المثبت في مضاحضه، الملخص لنكته ولطائف نظمه، المنقر عن فقره وجواهر علمه، المكتنز بالفوائد المفتنة التي لا توجد إلا فيه، المحيط بما لا يكتنه من بدع ألفاظه ومعانيه، مع الإيجاز الحاذف للفضول، وتجنب المستكره المملول. ولو لم يكن في مضمونه إلا إيراد كل شئ على قانونه، لكفى به ضالة ينشدها محققة الأحبار، وجوهرة يتمنى العثور عليها غاصة البحار، وبما شرفني به ومجدني، واختصني بكرامته وتوحدني، من ارتفاعه على يدي في مهبط بشاراته ونذره، ومتنزل آياته وسوره، من البلد الأمين بين ظهراني الحرم، وبين يدي البيت المحرم حتى وقع التأويل، حيث وجد التنزيل، أن يهب لي خاتمة الخير، ويقيني مصارع السوء، ويتجاوز عن فرطاتي
(٣٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 298 299 300 301 302 303 304 307 308 309 310 » »»