الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٢٨٦
وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين * فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين
____________________
عن مسالكهم حتى تخفى عليهم (وقدرنا فيها السير) قيل كان الغادي منهم يقيل في قرية والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشأم لا يخاف جوعا ولا عطشا ولا عدوا ولا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء (سيروا فيها) وقلنا لهم سيروا ولا قول ثم، ولكنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه كأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه. فإن قلت: ما معنى قوله (ليالي وأياما)؟ قلت: معناه سيروا فيها إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار، فإن الامن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات، أو سيروا فيها آمنين لا تخافون وإن تطاولت مدة سفركم فيها وامتدت أياما وليالي، أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم فإنكم في كل حين وزمان لا تلقون فيها إلا الامن. قرئ ربنا باعد بين أسفارنا وبعد ويا ربنا على الدعاء بطروا النعمة وبشموا من طيب العيش وملوا العافية فطلبوا الكد والتعب، كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم مكان المن والسلوى وقالوا: لو كان جنى جناننا أبعد كان أجدر أن نشتيه، وتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشأم مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد فعجل الله لهم الإجابة. وقرئ ربنا بعد بين أسفارنا، وبعد بين أسفارنا على النداء وإسناد الفعل إلى بين ورفعه به كما تقول سير فرسخان وبوعد بين أسفارنا. وقرئ ربنا باعد بين أسفارنا وبين سفرنا، وبعد برفع ربنا على الابتداء، والمعنى خلاف الأول وهو استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوها لفرط تنعمهم وترفههم كأنهم كانوا يتشاجون على ربهم ويتحازنون عليه (أحاديث) يتحدث الناس بهم ويتعجبون من أحوالهم. وفرقناهم تفريقا اتخذه الناس مثلا مضروبا يقولون ذهبوا أيدي سبا، وتفرقوا أيادي سبا، قال كثير:
أيادي سبا عزما كنت بعدكم * فلم يحل بالعينين بعدك منظر لحق غسان بالشام وأنمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان (صبار) عن المعاصي (شكور) للنعم. قرئ صدق بالتشديد والتخفيف ورفع إبليس ونصب الظن، فمن شدد فعلى حقق عليهم ظنه أو وجده صادقا، ومن خفف فعلى صدق في ظنه أو صدق يظن ظنا نحو فعلته جهدك وبنصب إبليس ورفع الظن، فمن شدد فعلى وجد ظنه صادقا، ومن خفف فعلى قال له ظنه الصدق حين خيله إغوائهم يقولون صدقك ظنك، وبالتخفيف ورفعهما على صدق عليهم ظن إبليس، ولو قرئ بالتشديد مع رفعهما لكان على المبالغة في صدق كقوله:
* صدقت فيهم ظنوني * ومعناه: أنه حين وجد آدم ضعيف العزم قد أصغى إلى وسوسته قال: إن ذريته أضعف عزما منه، فظن بهم اتباعه وقال لأضلنهم لأغوينهم. وقيل ظن ذلك عند إخبار الله (1) تعالى الملائكة أنه يجعل فيها من يفسد فيها. والضمير في عليهم واتبعوه إما لأهل سبأ أو لبني آدم. وقلل المؤمنين بقوله (إلا فريقا)

(1) قوله (عند إخبار الله الخ) في البيضاوي (أو سمع من الملائكة) - أتجعل فيها من يفسد فيها - فقال - لأضلنهم ولأغوينهم - اه‍ مصححه.
(٢٨٦)
مفاتيح البحث: التصديق (1)، الظنّ (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 281 282 283 284 285 286 287 288 289 290 291 ... » »»