الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٢٨٤
* لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور *
____________________
من علمهم الغيب ما لبثوا. وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه تبينت الانس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب.
روى أنه كان من عادة سليمان عليه السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال، فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله فيسألها لأي شئ أنت؟ فتقول لكذا، حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة فسألها فقالت: نبت لخراب هذا المسجد، فقال: ما كان الله ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط له وقال اللهم عم على الجن موتى حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب لانهم كانوا يسترقون السمع ويموهون على الانس أنهم يعلمون الغيب، وقال لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني، فقال: أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلى متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق، فمر به شيطان فلم يسمع صوته، ثم رجع فلم يسمع، فنظر فإذا سليمان قد خر ميتا، ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقدارا فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حيا، فأيقن الناس أنهم لو علموا الغيب لما لبثوا في العذاب سنة. وروى أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل أن يتمه، فوصى به إلى سليمان فأمر الشياطين بإتمامه، فلما بقى من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه وليبطل دعواهم علم الغيب روى أن إفريدون جاء ليصعد كرسيه، فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها، فلم يجسر أحد بعد أن يدنو منه وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فبقى في ملكه أربعين سنة، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. قرئ (لسبأ) بالصرف ومنعه وقلب الهمزة ألفا. ومسكنهم بفتح الكاف وكسرها وهو موضع سكناهم وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها أو مسكن كل واحد منهم. وقرئ مساكنهم، و (جنتان) بدل من آية أو خبر مبتدأ محذوف تقديره الآية جنتان، وفي الرفع معنى المدح تدل عليه قراءة من قرأ جنتين بالنصب على المدح. فإن قلت: ما معنى كونهما آية؟ قلت: لم يجعل الجنتين في أنفسهما آية وإنما جعل قصتهما وأن أهلهما أعرضوا عن شكر الله تعالى عليهما فخربهما وأبدلهم عنهما الخمط والأثل آية وعبرة لهم ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم. ويجوز ان تجعلهما أية أي علامة دالة على الله وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره. فإن قلت: كيف عظم الله جنتي أهل سبأ وجعلهما آية ورب قرية من قربات العراق يحتف بها من الجنان ما شئت؟ قلت: لم يرد بساتين اثنين فحسب وإنما أراد جماعتين من البساتين، جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربهما وتضامنها كأنها جنة واحدة كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كما قال - جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب - (كلوا من رزق ربكم) إما حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم، أو لما قال لهم لسان الحال، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك ولما قال - كلوا من رزق ربكم - (واشكروا له) أتبعه قوله (بلدة طيبة ورب غفور)
(٢٨٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 279 280 281 282 283 284 285 286 287 288 289 ... » »»