الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٢٧٩
الحكيم الخبير * يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا وعملوا
____________________
الحكيم) الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته (الخبير) بكل كائن يكون. ثم ذكر مما يحيط به علما (ما يلج في الأرض) من الغيث كقوله - فسلكه ينابيع في الأرض - ومن الكنوز والدفائن والأموات وجميع ما هي له كفات (وما يخرج منها) من الشجر والنبات وماء العيون والغلة والدواب وغير ذلك (وما ينزل من السماء) من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والملائكة وأنواع البركات والمقادير كما قال تعالى - وفي السماء رزقكم وما توعدون - (وما يعرج فيها) من الملائكة وأعمال العباد (وهو) مع كثرة نعمه وسبوغ فضله (الرحيم الغفور) للمفرطين في أداء مواجب شكرها. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ننزل بالنون والتشديد. قولهم (لا تأتينا الساعة) نفي للبعث وإنكار لمجئ الساعة أو استبطاء لما قد وعدوه من قيامها على سبيل الهزء والسخرية كقولهم - متى هذا الوعد -. أوجب ما بعد النفي ببلي على معنى أن ليس الامر إلا إتيانها، ثم أعيد إيجابه مؤكدا بما هو الغاية في التوكيد والتشديد وهو التوكيد باليمين بالله عز وجل، ثم أمد التوكيد القسمي إمدادا بما أتبع المقسم به من الوصف بما وصف به إلى قوله ليجزى، لان عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وشدة ثباته واستقامته لأنه بمنزلة الاستشهاد على الامر وكلما كان المستشهد به أعلى كعبا وأبين فضلا وأرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد المستشهد عليه أثبت وأرسخ. فإن قلت: هل للوصف الذي وصف به المقسم به وجه اختصاص بهذا المعنى؟ قلت: نعم وذلك أن قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية وأولها مسارعة إلى القلب إذا قيل عالم الغيب، فحين أقسم باسمه على إثبات قيام الساعة وأنه كائن لا محالة ثم وصف بما يرجع إلى علم الغيب وأنه لا يفوت علمه شئ من الخفيات اندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة فجاء ما أتطلبه من وجه الاختصاص مجيئا واضحا.
فإن قلت: الناس قد أنكروا إتيان الساعة وجحدوه، فهب أنه حلف لهم بأغلظ الايمان وأقسم عليهم جهد القسم، فيمين من هو في معتقدهم مفتر على الله كذبا كيف تكون مصححة لما أنكروه؟ قلت: هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها الحجة القاطعة والبينة الساطعة وهي قوله ليجزى، فقد وضع الله في العقول وركب في الغرائز وجوب الجزاء، وأن المحسن لابد له من ثواب والمسئ لابد له من عقاب، وقوله ليجزى متصل بقوله لتأتينكم تعليلا له. قرش لتأتينكم بالتاء والياء ووجه من قرأ بالياء أن يكون ضميره للساعة بمعنى اليوم أو يسند إلى عالم الغيب: أي ليأتينكم أمره كما قال تعالى - هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك - وقال - أو يأتي أمر ربك - وقرئ عالم الغيب وعلام الغيب بالجر صفة لربى، وعالم الغيب وعالم الغيوب بالرفع على المدح، ولا يعزب بالضم والكسر في الزاي من العزوب وهو البعد، يقال روض عزيب: بعيد من الناس (مثقال ذرة) مقدار أصغر نملة (ذلك) إشارة إلى مثقال ذرة. وقرئ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بالرفع على أصل الابتداء، وبالفتح على نفي الجنس كقولك لا حول ولا قوة إلا بالله بالرفع والنصب وهو كلام منقطع عما قبله. فإن قلت: هل يصح عطف
(٢٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 274 275 276 277 278 279 280 281 282 283 284 ... » »»