الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٢٧٧
وأشفقن منها وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما
____________________
بها من الانقياد وعدم الامتناع، والمراد بالأمانة الطاعة لأنها لازمة الوجود كما أن لأمانة لازمة الأداء، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز. وأما حمل الأمانة فمن قولك فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها، لان الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها ألا تراهم يقولون، ركبته الديون ولي عليه حق، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها، ونحوه قولهم:
لا يملك مولى لمولى نصرا، يريدون أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل، ومنه قول القائل:
أخوك الذي لا تملك الحس نفسه * وترفض عند المحفظات الكتائف أي لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده بل يبذل ذلك ويسمح به، ومنه قولهم: أبغض حق أخيك، لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده، وإذا أبغضه أخرجه وأداه، فمعنى فأبين أن يحملنا وحملها الانسان: فأبين إلا أن يؤدينها وأبى الانسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة وبالجهل لاخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها. والثاني أن ما كلفه الانسان بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الاجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به فأبى حمله والا ستقال به وأشفق مه وحمله الانسان على ضعفه ورخاوة قوته (إنه كان ظلوما جهولا) حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها وضمنها ثم خاس بضمانه فيها ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم من ذلك قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب لقال أسوي العوج، وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات، وتصور مقالة الشحم محال ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبيحة كما أن العجف مما يقبح حسنه، فصور أثر السمن فيه تصويرا هو وقع في نفس السامع وهي به آنس وله أقبل وعلى حقيقته أوقف، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. فإن قلت: قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأى واحد أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى لأنه مثلت حاله في تميله وترجحه بين الرأيين وتركه المضي على أحدهما بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه، وكل واحد من المثل والمثل به شئ مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، وليس كذلك ما في هذه الآية، فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه غير مستقيم، فكيف صح بناء التمثيل على المحال؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا والمشبه به غير معقول. قلت: الممثل به في الآية وفي قولهم لو قيل لشحم أين تذهب وفي نظائره مفروض والمفروضات تتخيل في الذهن، كما المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لابين أن يحملنها وأشفقن منها. واللام في ليعذب لام التعليل على طريق المجاز، لان التعذيب نتيجة حمل الأمانة، كما أن التأديب في ضربته للتأديب نتيجة الضرب. وقرأ الأعمش ويتوب ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ويبتدئ ويتوب الله، ومعنى قراءة العامة: ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها، لأنه إذا تيب على
(٢٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 272 273 274 275 276 277 278 279 280 281 282 ... » »»