فتح المعين - حسن بن علي السقاف - الصفحة ٨٦

والدليل على هذه القاعدة ما رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد صحيح عن أم سلمة قالت:
صلى رسول الله في العصر، ثم دخل بيتي، فصلى ركعتين، قلت يا رسول الله صليت صلاة لم تكن تصليها؟ قال: (قدم خالد فشغلني عن ركعتين كنت أركعهما بعد الظهر فصليتهما الآن) فقلت: يا رسول الله أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: (لا) وروى أبو داود عن عائشة قالت: كان رسول الله يصلي بعد العصر وينهى عنها ويواصل وينهى عن الوصال.
فأحاديث تحريم الهجر، عمومها ثابت في حقنا بلا إشكال.
٣ - إن النبي (ص) خصص عموم تحريم الهجر، بكونه فوق ثلاث، فأفاد أن الهجر لمدة ثلاثة أيام جائز، والعام لا يخصص مرتين.
٤ - إن تخصيص عموم تحريم الهجر، بإخراج الهجر لأجل الدين استدراك على الشارع والاستدراك عليه لا يجوز.
٥ - إن تخصيص الشارع بثلاثة أيام يشمل الهجر للدين أو الدنيا، فقصره على هجر الدنيا تصرف لا دليل عليه.
والذي أفادته الأحاديث الصحيحة المتواترة أن هجر المسلم لأخيه كبيرة توجب النار، ولا يجوز إلا لمدة ثلاثة أيام سواء كان لأجل الدين أو الدنيا.
٦ - أن هجر ابن عمر لابنه لا يصلح مخصصا للحديث، وإنما هو اجتهاد منه، أخطأ فيه فله ثواب اجتهاده، وخطأه مغفور لكن لا يجوز ترك نص الشارع واتباع غيره. فصل وتحريم هجر المسلم للمسلم، له أسباب وحكم:
١ - منها: أنه بدعة شركية كما مر بيانه، والإسلام إنما جاء لمخالفة المشركين في بدعهم، خصوصا ما اتخذوه سلاحا لمحاربة الدعوة الإسلامية.
٢ - ومنها: أنه مناف لروح الاسلام، ومباين له فالإسلام يدعو إلى التواصل والتوادد والتعاطف والتآلف والهجر يؤدي إلى التقاطع والتدابر والتباغض.
٣ - ومنها: أن الاسلام يدعو إلى ابداء النصيحة، ويؤكد وجوبها، حتى قال النبي (ص):
(الدين النصيحة) فأفاد بهذا الأسلوب البليغ: إن الدين ينحصر في النصيحة، إيذانا بأنها أهم مقاصد الإسلام، ومن أحق تشريعاته بالاهتمام وهي لا تختص بالعلماء وأولي الأمر بل تطلب من كل من يستطيع القيام بها، كالرجل في بيته، والتاجر في متجره، والصانع في مصنعه والأخ مع أخيه، والصديق مع صديقه..
ولا شك أن الهجر يعطل النصيحة، إذ لا يمكن أن يتناصح متهاجران.
٤ - ومنها: أن الهجر يعطل طاقة الخير في المتهاجرين، بالنسبة إلى بعضهما، فلا يتعاونان على فعل بر، ولا يجتمعان على مصلحة.
٥ - ومنها: أن الهجر يفضي بقبض يد المساعدة عن المهجور وهو عقوق إن كان المهجور أحد الوالدين، وقطيعة رحم إن كان أحد الأقارب، والعاق والقاطع لا يدخلان الجنة.
٦ - ومنها: أن الهجر أمر سلبي، لا يمنع عاصيا من معصية ولا يرد مبتدعا عن بدعة، بل يبقى المهجور على ما هو عليه، وكأنه يهزأ بالهاجر.
ولهذا لم يوجب الله علينا هجر الكفار، مع أنه قال عنهم (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم) وقال سبحانه: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء).
والإرساليات التبشيرية، تسعى جهدها في تكفير المسلمين، بالمساعدات المالية والصحية وبالتعليم والمحاضرات، فالواجب مقاومتهم بالمثل عملا بقول النبي (ص):
(جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم وأموالكم)، ولم يقل: جاهدوهم بهجرهم، لأن الهجر سلاح العجزة والمستضعفين.
وروى الترمذي عن ابن مسعود عن النبي (ص) قال: (لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).
فجلس رسول الله (ص) وكان متكئا فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا).
تأمل هذا الحديث جيدا، تجده ينفي الهجر نفيا باتا، فإنه (ص) لم يقل حتى:
تهجروهم هجرا، ولكن قال: (حتى تأطروهم على الحق أطرا) أي تعطفوهم على الحق عطفا، إما بسطوة الحكم وإما بمداومة النصح وتكرار الارشاد مرة بعد مرة، فأمر بعلاجهم، علاجا إيجابيا مثمرا.
وإنما لعن الله بني إسرائيل لأنهم تركوا النهي عن المنكر كما جاء ذلك صريحا في قوله تعالى: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه). ولم يقل: كانوا لا يهجرون أهل المنكر، لأن الهجر لا يرضاه الشارع ولا يقره كما مر بيانه.
ولحديث ابن مسعود روايات، ففي رواية أبي داود: " (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا، أو تقصرنه على الحق قصرا).
وفي رواية ابن أبي حاتم: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد المسئ ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعنكم كما لعنهم)، وهي رواية أبي داود أيضا.
والهاجر أول داخل في هذا الوعيد، لأنه لم يأمر بمعروف، ولا نهى عن منكر، ولعنة الله لم تنزل على بني إسرائيل لمجرد مواكلتهم أهل المنكر، بل لتركهم النهي كما مر ولرضاهم بفعل العصاة.
ومن المقرر المعلوم أن مواكلة الكافر جائزة وهو أسوأ حالا من العاصي.
وزوج اليهودية أو النصرانية يواكلها ويشاربها: وكفرها قائم بها.
٧ - ومنها: أن الهجر، انعزال وانخذال، والإسلام ينهى عنهما ويحض على الجماعة بجعل المنعزل المنخذل سهل الانقياد للشيطان لخروجه عن عامة المؤمنين، وضرب له مثلا بالشاة المنفردة عن الغنم يسهل للذئب اختطافها.
روى الطبراني عن أسامة بن شريك قال: قال رسول الله (ص): (يد الله على الجماعة فإذا شذ الشاذ منهم اختطفه الشيطان كما يختطف الذئب الشاة من الغنم).
وفي الحديث أمر بتجنب طريقة المبتدعة الذين لا يصلون مع جماعة المسلمين، بدعوى أن الإمام مبتدع أو حالق لحيته مثلا.
٨ - ومنها: أن الهجر يعطل حقوق المسلم بين المتهاجرين، فلا يسلم أحدهما على الآخر ولا يرد سلامه، ولا يعوده إذا مرض ولا يشيع جنازته إذا مات، مع أنه قد يعود صاحبه اليهودي أو النصراني، ويسلم عليه، رأيت شخصا من هذه الطائفة سلم عليه رجل مسلم، فلم يرد عليه لاعتقاد ابتداعه، ودخل على بقال نصراني فحياه وصافحه وضحك إليه كأنه أخوه.
٩ - ومنها: أن الهاجر يفرح إذا أصابت المهجور مصيبة، كما يحزن إذا أصابته نعمة، وهذا مناقض لروح الإسلام، غاية التناقض.
١٠ - ومنها: أن المتهاجرين لا يجتمعان على خير أبدا فقد يترك أحدهما صلاة الجماعة لأن خصمه إمام الصلاة، ويترك عيادة مريض أو تشيع جنازة لئلا يقابل خصمه هناك.
١١ - ومنها: أن المتهاجرين يتجه كل منهما إلى تعييب خصمه وإفشاء عوراته، بالصدق أو بالكذب: فهما دائران بين الغيبة والبهتان وكلاهما كبيرة.
١٢ - ومنها: أن المتهاجرين قد يسعى أحد ما في تعطيل مصلحة لخصمه، أو إفسادها، وفد بلغنا من ذلك وقائع وشاهدنا بعضها وهي تدل على ما وصل إليه انحطاط بعض الناص، بسبب تمسكهم بالهجر الممقوت، بحيث لو استطاع أن يقضي على خصمه ما تأخر لحظة ولا يرقب فيه إلا ولا ذمة.
١٣ - ومنها: أن المتهاجرين يلعن أحدهما خصمه لعنا صريحا بدعوى فسقه أو بدعته، ولعن المسلم المعين لا يجوز.
١٤ - ومنها: أن المتهاجرين، محرومان مما يفيض الله على المسلمين في مواسم الخير، فصلاتهما لا ترفع، وعملهما موقوف حتى يصطلحا.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): (تعرض الأعمال في كل اثنين وخميس فيغفر الله في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرؤ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا).
اه كلام المحدث الغماري متعنا الله بحياته.
وزيادة على ذلك نقل ابن عبد البر الإجماع على أنه لا يجوز هجر المسلم أكثر من ثلاثة أيام، ونقله الدكتور بكر في كتابه (هجر المبتدع) واعتبره من أدلته، وهو في الحقيقة دليل عليه قاصم لاستدلاله نسأل الله له الهداية، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.
(٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 74 75 76 77 80 81 83 85 86 86 94 » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 توطئة 3
2 تقديم 4
3 فتح المعين بنقد كتاب الأربعين 11
4 مقدمة 12
5 نقد باب إيجاب قبول صفة الله تعالى 16
6 نقد في باب الرد على من رأى كتمان أحاديث صفات الله تعالى 19
7 نقد باب أن الله تبارك وتقدس وتعالى شيء 23
8 نقد باب أن الله عز وجل شخص 24
9 تنبيه 25
10 نقد باب إثبات النفس لله عز وجل 26
11 نقد باب الدليل على أنه تعالى في السماء 27
12 نقد باب وضع الله عز وجل قدمه على الكرسي 29
13 نقد باب إثبات الحد لله عز وجل 31
14 نقد باب في إثبات الجهات لله عز وجل 32
15 نقد باب إثبات الصورة له عز وجل 34
16 نقد باب إثبات العينين له تعالى وتقدس 36
17 نقد باب إثبات اليدين لله عز وجل 38
18 نقد باب خلق الله الفردوس بيده 39
19 نقد باب إثبات الخط لله عز وجل 41
20 نقد باب أخذ الله صدقة المؤمن بيده 42
21 نقد باب إثبات الأصابع لله عز وجل 43
22 نقد باب إثبات الضحك لله عز وجل 46
23 نقد باب إثبات القدم لله عز وجل 48
24 نقد باب الدليل على أن القدم هو الرجل 51
25 نقد باب إثبات الهرولة لله عز وجل 53
26 نقد باب إثبات نزوله إلى السماء الدنيا 54
27 نقد باب إثبات رؤيتهم إياه عز وجل في الجنة 57
28 خاتمة فيها مسائل 58
29 بيني وبين الشيخ بكر 67