وهناك نوع ثان من المختارات " يكتفي بإثبات الأبيات الجميلة القليلة أو الكثيرة، المنتقاة من كل قصيدة. ومن هذه المختارات ما هو مبوب على الموضوع أو الفن الشعري، ومنها ما هو مبوب على المعاني الجزئية، فهو اصطفاء مقيد ومتعدد، يلتزم تصنيفا وترتيبا معينا ". وأطلق على هذا النوع من المختارات اسم " الحماسيات "، لغلبة هذا الاسم عليها، وأقدم ما عرف منها هو حماسة الشاعر أبي تمام الطائي (231 ه).
ولأن القرشي النجفي لم يسم اختياراته التي بين أيدينا، فإن المحقق لم يتردد في إطلاق اسم " الحماسة " عليها، معللا ذلك بأسباب منطقية منها:
* جعل النجفي أول أبواب كتابه باب الفخر والحماسة، وهو الباب الأول أيضا في حماسة أبي تمام، وإن كان زاد على الأول كلمة الفخر.
* إن تسمية الشئ بأوله معروفة مقررة، فقد سميت فاتحة الكتاب الكريم بسورة " الحمد "، وسميت سورة " الإسراء " كذلك بسورة " سبحان " كما أشار جلال الدين السيوطي في كتابه " الإتقان في علوم القرآن ". وكثيرا ما تسمى القصائد بمطالعها، فيقال عن معلقة امرئ القيس، قصيدة " قفا نبك " وعن قصيدة كعب بن زهير في مدح الرسول (ص)، قصيدة " بانت سعاد ".
وإلى ذلك فإن النجفي صنف كتابه على عشرة أبواب تتفق تسمية أكثرها مع تسمية أبواب " الحماسة " لأبي تمام. فهي عند النجفي: في الفخر والحماسة، في المراثي، في النسيب، في المديح، في الهجاء، في الأدب، في العتاب، في الأوطان، في الصفات، في الخمر.
ويشير المحقق إلى أنه " على الرغم من الاختلاف في تسمية الباب الثامن والتاسع والعاشر، وفي ترتيب بعض الأبواب الأخرى، فإننا نلحظ أن النجفي قصد اتباع سبيل أبي تمام، والسير على نهجه، وأراد أن يؤلف حماسة فيها مختارات شعرية مرتبة ومبوبة حسب ترتيب وتبويب أبي تمام في مختاراته ".
كما يشير إلى أن " مصنف فهارس المخطوطات الأدبية في دار لكتب الظاهرية (الدكتور عزة حسن)، سمى الكتاب بحماسة النجفي دون تردد، وأشار إلى ذلك بوضع اسم الكتاب ضمن قوسين ".
ويبلغ عدد اختيارات النجفي في كتابه هذا 422 اختيار كلها مقطعات لا يتجاوز عددها البيتين أو الثلاثة، إضافة إلى بعض القصائد التي بلغ عددها في جميع الأبواب تسعا وثلاثين قصيدة، ويعتبر المحقق، في هذا المجال، أن هم النجفي لم يكن الرواية والجمع، ولكن التخير والانتقاء " ولعله لم يغال حين اقتصر في اختياره على مقطعة تتكون من بيتين أو ثلاثة أبيات، إذ أنه لم يقتطعها من صلتها، ويفردها من دونها بالإثبات، وإنما حرص على أن يكون للبيتين أو للثلاثة معنى مستقل، يمكن أن يفهمه القارئ فهما كاملا، فلا يحس أنه مقتطع أو منبت، وهذه مزية طيبة حفظت للحماسة قيمتها وحسنها ".
أما الشعراء الذين اختار لهم النجفي فهم من قدامي الشعراء الجاهليين والإسلاميين والعباسيين. المكثرين أو المقلين، المشهورين أو المغمورين، وإن كانت الأغلبية العظمى منهم تنتمي إلى العصر الإسلامي. وقد تكررت أسماء شعراء بعينهم من أمثال الأحوص، وعبيد الله بن عتبة، والعباس بن الأحنف، والفرزدق، وإبراهيم بن العباس الصولي.
ويرى المحقق أن الفكرة التي كانت تسيطر على النجفي في الاختيار وتوجهه إليه " هي الجودة ولا شئ غيرها، الجودة في كل عصر، ومن كل شاعر مهما كانت منزلته ونوازعه ومذاهبه... أما رائده الثاني فهو الجمال، ولا شك أن الجمال كثيرا ما يقترن بالجودة... وإضافة إلى ذلك فقد راعى المصنف في انتقائه اختيار المعنى السامي، والتعبير المبتكر اللطيف، والصورة المعبر الجديدة، والخاطرة الرائعة، واللفظ السهل الواضح القريب ".
وفي سياق تقييم حماسة القرشي بين سائر الأعمال من صنفها يرى قبلاوي أنها " حلقة لها مكانتها وأهميتها بين كتب الحماسيات. إضافة إلى أنها تمثل مرحلة تطور ونمو لفكرة المختارات الحماسية التي تعيش في الأذهان دائما، وكأنها الصورة المثلى للمختارات الشعرية. والحماسة بعد أوسع أفقا من الديوان الشعري، لتنوع موضوعاتها، وتعدد شعرائها، فتصويرها للحياة الفنية والاجتماعية أكمل وأدق ". وصاحب هذه الاختيارات هو الشيخ عباس ابن الشيخ محمد بن عبد علي ابن الشيخ على ابن الشيخ محمد ابن الشيخ مسعود بن عمارة القرشي العميري الربعي النجفي. وهو ينتمي إلى أسرة معروفة في مدينة النجف، ترجع في نسبها إلى ربيعة من فخذ كان يعرف بالجعافرة، وهم بطن من بني عامر بن صعصعة، وهم بنو جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر، والعامريون بطن من كنانة بن خزيمة من العدنانية.
ولد النجفي في المدينة التي ينتسب إليها، في أوائل القرن الثاني عشر الهجري، كما يرجع المحقق. وقد عرف خصوصا برحلاته الكثيرة المتواصلة، فقد جاب البلاد وطاف " إيران ودخل خراسان والشام وحلب والقسطنطينية... ووصل إلى جبل عامل وسافر إلى الحجاز ومصر...
وجاب بلاد العراق، وساحل فلسطين، وأقام مدة في حلب " إلى أن توفي فيها سنة 1299 ه / 1878 م، ودفن في مقبرة العبادة قرب باب الفرج في وسط المدينة.
والمخطوطة التي اعتمدها المحقق في عمله موجودة في دار الكتب الظاهرية بدمشق. وما يزيد من قيمتها أنها بخط المؤلف نفسه لقوله في خاتمتها " تم بحمد الله تعالى في قرية جبع بقلم مرتبه الحقير المذنب الجاني عباس القرشي النجفي، وقد وافق الفراغ منه غرة ذي الحجة سنة ست وثمانين ومائتين بعد الألف من الهجرة النبوية ". وهي منسوخة بخط جيد، إذ كان المؤلف خطاطا ماهرا، " ويندر فيها الطب أو التصحيح أو التصحيف، عني ناسخها بها عناية فائقة، وهي مشكولة باللون الأحمر، كما كتب أول القصائد باللون الأحمر بالخلط نفسه، أما أسماء الأبواب، فقد كتبها بالخط الثلث الكبير ". وهذا دفع المحقق إلى القول: " وهذه المزايا الجيدة التي تتصف بها المخطوطة، تجعلها نسخة أصلا معتمدة، يركن الباحث إلى نسبتها، لتوفر خير الأدلة، وهو اعتراف صاحبها ".
السيد عباس الهمذاني الشيرواني مرت ترجمته في الصفحة 432 من المجلد السابع باسم السيد عباس الهمذاني الشيرواني. ولكننا وجدنا آغا بزرگ يسميه: الشيخ محمد عباس الشيرواني. وكذلك جاء في (الأعيان) تاريخ وفاته سنة 1256 ولم يذكر تاريخ مولده. وآغا بزرك يقول إن آخر تاريخ لطبع كتبه في حياته كان سنة 1309 فوفاته بعد هذا التاريخ، وأن مولده سنة 1241. ونحن لا نستطيع الحكم على أحد الرأيين بما بينهما من التباين البعيد ولكن كان لا بد لنا من وضع هذا الرأي أمام القارئ تحريا للحقيقة.
وقد وردت التفاصيل الآتية عن حياته:
كان جده الميرزا إبراهيم وزيرا للسلطان نادر شاه ولما عزله سكن النجف وكان والده محمد علي خان مستوفي الممالك فقتله نادر شاه ففر ولده محمد تقي إلى شيروان وأبدل اسمه فسمى نفسه (الشيخ محمد الشيرواني) ثم سافر إلى