صح أن أبا حنيفة كان يجهر بآرائه في نقد سياسة المنصور وأصحابه نقدا لاذعا يعلن عن مناوأته للخليفة ولعماله في شدة وطأتهم على العلويين على رؤوس الأشهاد، حتى قال له بعض أصحابه: " والله ما أنت بمنته حتى توضع الحبال في أعناقنا "، والواقع أن أبا حنيفة عارض سياسة الأمويين المجافية للدين والمبنية على اضطهاد العلويين قبل معارضته لسياسة العباسيين فرفض ولاية القضاء في أيام مروان بن محمد، وضرب وحبس في هذا السبيل، وفي هذا الامتناع الشديد عن ولاية القضاء في العصرين الأموي والعباسي بعد ذلك ما فيه من الدلالة على تبرمه بالسياسة وعلى مجافاته للحكام من أمويين وعباسيين، ويعده المؤرخون كافة من الموالين لآل علي، وكان لخروج زيد بن علي وقتله على الصورة التي قتل فيها - في أيام هشام بن عبد الملك - أثر عميق في نفسه ومشت بين زيد الشهيد وأبي حنيفة رسل وبعث إليه بمال وأطلعه على بعض الموانع التي منعته من الخروج.
ومما لا شك فيه أن اغتباط أبي حنيفة كان عظيما بزوال دولة بني أمية وانتقال الأمر إلى العباسيين، وتروى له خطبة في الكوفة عند بيعة السفاح استقبل فيها الدولة الناجمة استقبال الولي الناصر، ولم تعرف عنه خصومة لهذه الدولة في أيام السفاح وفي شطر غير قليل من أيام المنصور، ولما خرج محمد بن عبد الله النفس الزكية بعد مضي عشر سنوات على بيعة المنصور - وكانت تربط أبا حنيفة بالنفس الزكية رابطة قديمة إذ كان أبوه عبد الله بن الحسن من أجل أشياخه ظهرت الخصومة بينه وبين أمراء الدولة العباسية ولم يسعه إلا المجاهرة بآرائه في مناصرة العلويين، لذلك نرى كتب التاريخ حافلة باخبار سخطه على بني العباس بعد هذه الثورة وبعد مقتل العلويين الثائرين.
آراؤهم في الخروج على السلطان وقد عقد الخطيب فصلا عنوانه ذكر ما حكي عن أبي حنيفة من رأيه في الخروج على السلطان "، وهذا الفصل عبارة عن أحاديث يستنتج منها أن أبا حنيفة يرى الخروج بالسيف على سلطان زمانه الجائر، وقد ناقش هذه الروايات فريق من المؤلفين والمحدثين زاعمين أنها روايات واهية الأسناد، وقال آخرون: أنها كذب وافتراء على أبي حنيفة ودليلهم على ذلك أن فقهاء الحنفية مجمعون على القول بعدم جواز الخروج على السلطان وإن طاعته واجبة ما لم يأمر بمعصية، ويفهم مما قالوه أن ما نقله الخطيب في هذا الشأن لا أصل له في مذهب أبي حنيفة.
وممن ناقش الخطيب البغدادي فيما حكاه عن أبي حنيفة وأسند إليه والى أصحابه أقوالا تنافي الأقوال الواردة في تاريخه وأنكر تلك الأقوال المنسوبة إليه في جواز الخروج على ولاة الأمور الملك عيسى بن العادل الأيوبي في كتابه: " السهم المصيب " وقد نقل عن أبي حنيفة قوله " ولا نرى الخروج على أئمتنا وأولياء أمورنا وأن جاروا علينا وندعو لهم " ثم قال: " واجماع أصحاب أبي حنيفة على ذلك ".
ومن رأي بعض المؤرخين أن هذا القول مرجوح وإن في اجماعهم على محنته ما يكفي لترجيح قول القائلين بخلاف ذلك، فالمنصور أعقل من أن يؤذي أبا حنيفة لمجرد امتناعه عن القضاء وإنما اتخذ من هذا الإضراب ومن مواقف أخرى عارض أبو حنيفة رغبات المنصور ذريعة يتذرع بها لايقاع هذه المحنة، وقد ثبت أن في أعوان المنصور ووزرائه من يحرض على أبي حنيفة ويثير الخصومة بينه وبين الخليفة ومنهم الربيع بن يونس وأبو العباس الطوسي والأمير عيسى بن موسى أمير الكوفة الآنف ذكره وغير هؤلاء.
كان أبو حنيفة وهو في الكوفة يحث الناس على الخروج مع إبراهيم بن عبد الله ويأمرهم باتباعه ويشجع إبراهيم على الطلب بدم أخيه ويدعوه إلى نزول الكوفة مهونا عليه أمر عيسى وعمه المنصور، وقد أفتاه على ما يقول هذا الفريق ي أن يسير معهم سيرة جده مع أهل الشام، وكان بقاؤه في الكوفة - وهي علوية في دعوتها - خطرا على القوم، ولذلك هم واليها الأمير عيسى بهدر دمه ثم اكتفى بأن أشخصه من الكوفة إلى بغداد بأمر من المنصور، وتوفي أبو حنيفة سنة (151) على أصح القولين أي بعد مقتل إبراهيم بن عبد الله بست سنوات، ويجب أن تكون إقامته هذه المدة ببغداد أو أنه كان يتنقل بينها وبين الكوفة، وفي كيفية وفاته ببغداد أقوال بيد أن المؤرخين مجمعون على وفاته وهو في المحنة.
هذا ويلاحظ أن مذهب أبي حنيفة في الفقه أصبح مذهب الدولة العباسية في عصر الهادي والرشيد بعد أن نوهض صاحب المذهب في عصر المنصور، وقد اختير جل القضاة من بين المنتمين إلى المذهب المذكور، وكان لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة شان يذكر في ذلك حتى قيل: مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان الحنفي في الشرق والمالكي في الغرب، وكان مرد رغبة كثير من الطلاب بعد ذلك بدرس الفقه الحنفي إلى تولي المناصب القضائية أو مناصب التدريس.
محنة أخرى كان المنصور يلاحق من خرج مع محمد وأخيه إبراهيم أو أفتى بجواز الخروج معهما، وقد أجمعت كلمة المؤرخين على محنة امتحن بها مالك بن أنس المدني صاحب الموطأ فضرب بالسياط ومدت يداه حتى انخلعت كتفاه وقيل: ضرب سبعين سوطا في المدينة هذا ما أجمع عليه المؤرخون وأصحاب السير، وفي أسباب هذه المحنة المتفق عليها أقوال أشهرها فتوى مالك المعروفة في " يمين المكره "، وفي " طلاق المكره " إذا استفاض في كثير من كتب المؤرخين أن مالكا أفتى بجواز الخروج مع محمد بن عبد الله وبصحة البيعة له: فقيل له: أن في أعناقنا بيعة للمنصور فقال إنما بايعتم مكرهين أو قال: ليس على مكره يمين، وقد احتج من احتج بهذا الحكم على بطلان بيعة أبي جعفر المنصور وبايع أهل المدينة النفس الزكية، وعلى هذا فإن التحلل من بيعة أبي جعفر المنصور هو المقصود من هذه الفتوى ونفى آخرون عن مالك الخوض في السياسة والتحريض على السلطان ذاهبين إلى أن هذه الفتوى عامة لم تقصد بها نازلة أو حادثة بعينها، وهذا الفريق من المحدثين والمؤلفين يذهبون إلى أن مالكا التزم الحيدة في حرب المدينة بين الأمير عيسى بن موسى مقدم جيش المنصور والعلويين ومقدمهم النفس الزكية، بيد أن بعض حساد مالك ومثيري الخصومة بينه وبين المنصور استندوا إلى هذه الفتوى فيما جرى بين مالك ووالي المدينة.
دولة لبني الحسن في المغرب لم يكون بنو عبد الله بن الحسن الذين خرجوا على بني العباس في صدر دولتهم أو في خلافة خلفائهم الأول دولة تذكر في المشرق ولا أمهلتهم الأيام أن يقوموا بذلك وإن قامت لأعقابهم وأحفادهم امارات ودويلات بعد ذلك في بعض ديار العجم كبلاد الديلم وفي بعض بلاد العرب كاليمن، وإنما قلنا دولة في المشرق لأن بني الحسن كونوا لهم - والحق يقال - أكثر من دولة واحدة في المغرب الأقصى وفي بلاد الأندلس، عرفت الدولة الأولى في كتب التاريخ بدولة الأدارسة وعرفت الثانية بدولة بني حمود من أعقابهم، وقد استندت هاتان الدولتان في قيامهما على حزب لا يستهان بقوته وشدة مراسه قوامه البربر والمغاربة المراكشيون، وقد نسبت دولة الأدارسة إلى إدريس بن عبد الله بن الحسن والى ابنه الذي خلفه في المغرب وسمى باسمه، ويقال لإدريس ابن عبد الله " إدريس الأكبر تمييزا له عن ابنه الذي يقال له